09-01-2020 11:49 AM
بقلم : أ.د. خليل الرفوع
من الطفيلة سليلة الزيتون وسيدة الجبل استمدّ تيسير السبول قامة سامقة تجذرت أصولها في الصخر، ونفثت أدبا راقيا في وجدان عشاق الكلمة، من الطفيلة استمد حدة الطبع، وصدق الكلمة وصرامة الموقف وطفولة العاطفة، وفي الفكر القومي عاش حُلُمَ الوحدة باحثا عن اكتمال الوَحدة العربية، لم تلوثه الأحزاب بسطحيتها الفكرية وانقلاباتها الدموية، ولم يسقط في شعارات النفاق السياسي، يمثل من حيث السرد الزمني رأسَ الدفقة الثانية من الشعر الحر، ومن حيث السيرورة الأدبية الأردنية العمودَ الأوسط بين عرار وحبيب الزيودي، وهو يشكل بأدبه الشعري ( أحزان صحراوية) ونثره ( أنت منذ اليوم، الهندي الأحمر)، أقول إنه يمثل مثالية القروي مبدأً وموقفًا وتضحيةً، وتعد قصيدته " أنا يا صديقي" خاتمة أحزانه بعد انكسار حلمه وسقوط القطرية في هزيمة ١٩٧٣م، فلم يستطع تحمل نبأ الهزيمة بعد ادعاءات الثرثرة بالنصر، فكتب قصيدته الأخيرة ثورةً على الفكر القومي الديموغوجي المتصدع أحزابًا ورفاقًا وأدباء وواقعًا ثم أطلق على رأسه " مستودع الأحلام " الرصاصة القاتلة، فتضافرت القصيدة والطلقة لتؤكدا معًا موقفه ومبدأه ورؤيته، وتآلفتِ القصيدة في مقاطعين متواشجينِ تركيبًا وتوتيرًا :
" أنا يا صديقي
أسيرُ مع الوهمِ ، أدري
أُيمِّمُ نحوَ تُخُومِ النهايه
نبيًّا غريبَ الملامِحِ أمضى ، إلى غير غايه
سأسقطُ لا بُدّ يملأُ جوفي الظلام
نبيًّا قتيلا وما فاهَ بعدُ بآيه" .
يخاطب كلّ من يصدقه بالرؤيةِ التي تضمنتها القصيدة، صراع المثقف الحالم مع السياسي الواقعي، وبالضرورة يفضي إلى خيبات متتالية، إنه الوهم الذي يتقمصُ الشاعرَ بإرادته فيسير معه بهدوء نحو التخوم الموحشة المقفرة إلا من أعدائه المتربصين ، وحدَهما هناك مع معرفة النتيجة قبلًا، لمَ ذلك السير؟ ولمَ تلك النهاية؟ ، لأنه غريب كالأنبياء لم يُسْتَمع لبشاراته فكان سقوطه ثقيلا مدويًّا بعد أن امتلأ جوفه ظلاما مما يرى، فلم تتحقق نبوءته ببشارة الأمل لقومه الذين أنكروا آماله وأحلامه، فكان السقوط في التخوم تهلكةً، إنها حتمية الموت بعد اغتراب الروح في الجسد المتعب والأمة المنكسرة.
" وأنتَ صديقي
وأعلمُ، لكنْ قدِ اختلفتْ بي طريقي
سأسقطُ لا بدَّ
أسقط يملأ جوفي الظلامْ
عذَيركَ بعدُ
إذا ما التقينا بذاتِ منامْ
تفيقُ الغداةَ وتنسى
لَكَمْ أنت تنسى
عليكَ السلامْ".
التأكيدُ على السقوط تكرارٌ لفلسفة الموت الفجائعي، إنها لحظة الانفجار، اصطدام الحلم بالواقع، وتلاشي النور في الليل، والنصر في الهزيمة، بعد أن أعارته ثكالى النوق حنجرةَ النداء لكن لم يكن ثمةَ صدى، فلماذا يبقى يهذي بالنصر الملفق؟! فليكن السلام وداعا لكل أصدقائه، وليكنِ اللقاءِ صوفيًّا به في الرُّؤى لما فيها من صدق وصفاءٍ وجمال؛ ولأنه يعلم أن قبح الواقع ينسي الذاكرة أحلامهَا.
تلك قصيدة يا صديقي لتيسير السبول التي اختصرت أماني الشعراء في الكلمة الشعرية، وبها لن يستطيعوا تغيير صيرورة الزمن المتخم بانكسارت أهله، وحينئذ يكون الرحيلُ "انتحارًا" سبيلا للخلاص ظنا منهم أنه النجاة الأبدية بعد أن لم يستطيعوا العطاء، فسقطت أجسادهم في الثرى لتعود إلى دورتها الأولى، لكن أرواحهم الشعرية تغري بالتأمل والدهشة .
أ. د. خليل عبد الرفوع