21-01-2020 09:27 AM
بقلم : محمود علي الزعبي
تنطلق النظريات الكبرى في العلوم السياسية ( الليبرالية و الواقعية و الماركسية ... الخ ) في أساسها التنظيري من فهمها للهوية ( ID ) ، فالليبرالية ترى أن الهوية تنحصر بالفرد أولاً ، فيما ترى الواقعية بأن الهوية للدولة ، في الحين الذي ترى به الماركسية بأن الهوية للجماعة السياسية ( بدءً بمجتمع العمال المحلي و انتهاءً بمجتمع المشاع العالمي ) . و بالتالي ، فإن كافة التنظيرات التي تتصل بالمسائل التي عالجتها تلك النظريات تنبع من منظورها لمسألة الهوية .
و حيث أن فكرة الهوية تقوم على تصنيف " الأنا و الآخر " ، و حيث أنها تضفي على النظرة للأنا مسحة من التفهم و السعي لتحقيق الرغبات ، فيما تضفي على نظرتنا للآخر مسحة من التوجس و الشك الدائمين ، فإننا سنكون في سعي دائم للحفاظ على مكونات هويتنا متحدة و في إزدياد مستمر ، في الوقت الذي سنسعى به إلى تحييد خطر الطرف الآخر .. إما بقهره بالوسائل الخشنة ( كما ترى الواقعية ) أو بسحب البساط من تحته عبر التنافس السلمي ( كما ترى الليبرالية ) .
و في الحين الذي يدين به كل منا لمجموعة من الولاءات ( الهويات ) ، فقد قسمت الأدبيات السياسية فكرة الولاء إلى ولاء وطني ( الولاء للدولة ) ، و إلى ولاءات فرعية ( الدينية و العرقية و الطائفية و القبلية و الإقليمية ... الخ ) . و قد سادت حالة من شبه الإتفاق التنظيري ، على اختلاف النظريات التي تعتنقها الدول ، بضرورة إعلاء الولاء الوطني على الولاءات الفرعية حتى يتسنى للدولة أن تنجح في بقائها و استقرارها و استمرارها . فالتعارض بين الولاء الوطني و بين الولاءات الفرعية ، أو تفوق الولاءات الفرعية على الولاء الوطني ، يؤدي في النهاية إلى إحباط مشروع الدولة شيئاً فشيئاً ، حتى يتسبب ذلك التعارض في انقسام الدولة إلى عدة كيانات سياسية صغرى أو يؤدي لجرِّها إلى خانة " الدولة الفاشلة " التي تعجز عن القيام بوظائفها .
إن قضية تصادم الولاءات أو تصالحها تعتمد بشكل تام على ما يسمى بـ " آليات التمثيل الديموقراطي " ، أو ما نسميه بـ " الإنتخابات " ، و كلما كانت الإنتخابات ناضجة و حقيقية و عادلة فإنها تسهم في ترجيح الكفة لصالح الولاء الوطني ، حتى ولو لم يحقق أصحاب الولاءات الفرعية نتائج كبرى في الإنتخابات بشكل دائم و مستمر . و على العكس أيضاً ، فكلما أصيبت آليات التمثيل الديموقراطي بالعطب فإنها تسهم في إمالة الكفة لصالح الولاءات الفرعية على حساب الولاء الوطني .
إن آليات التمثيل الديمقراطي تعتمد في أساسها على ثلاثة محاور : الأول هو منظومة القوانين ( قوانين الإنتخاب و الأحزاب ) التي تضع إطاراً يعزز الولاء الوطني على حساب الولاءات الفرعية ، و الثاني هو الوعي السياسي الذي يدفع الناخب لتغليب المصلحة العامة ( التي ستعود على مصلحته الخاصة بالفائدة في النهاية ) و يكون ذلك عبر إختياره للفكرة الأنضج لا للقرابة ، و الثالث هو وجود أحزاب أو تيارات أو قوائم وطنية فاعلة تمكن من يعيش في أقصى الشمال من انتخاب من هو في الوسط أو في أقصى الجنوب ، والعكس صحيح ، و بالتالي فإنها تمكن الناخب و المرشح من التحلل من ضيق جغرافيا الدوائر الإنتخابية الصغرى إلى إتساع الوطن .
يمكن إسقاط ذلك المنظور على دول العالم الثالث عموماً ( حيث يغيب الولاء الوطني بغياب آليات التمثيل الديموقراطي .. و حيث تحضر الولاءات الفرعية بكل ثقل ) ، و يمكن إسقاطه على الحالة الأردنية على وجه الخصوص . فالأردن ، و منذ نشأته ، اعتمد - في الغالب - أُطراً قانونية تحصر الناخب في ضيق جغرافيا الدوائر الإنتخابية ، و بالتالي يغيب الوعي بالمصلحة الوطنية العامة ، و كنتيجة لذلك تغيب الأحزاب و تفشل بشكل مستمر . و في المقابل فإن القبلية و العشائرية تحضر بديلاً عنها ، مما منع جسد الدولة الأردنية الوليد من أن يترعرع و ينضج ، و مما جعل فكرة الدولة غريبة تماماً عن عقل أفرادها ؛ حيث لا اتساق بين الدولة و المواطن ( لا وجود لعلاقة المواطنة ) ، و حيث يشعر الأفراد بأن نهشهم لجسد الدولة التي يرونها تنهش أجسادهم هو أمرٌ مباح و ضروري . و بالتالي ، ضعُفت الدولة و ضعُف أفرادها و إشتدت بينهما حالة القطيعة إلى حدٍ ينذر بالخطر!
و حيث يغيب الوعي السياسي في هذه المرحلة و تغيب الأحزاب ، تبعاً لغياب المنظومة القانونية التي تؤسس للبناء الوطني و لجسد الدولة ، فإن الإنتخابات النيابية القادمة في الأردن ستكون نسخة مكررة عن المسوخ الإنتخابية التي رأيناها سابقاً ، و لن تكتفي بهذا الحد ، بل ستسهم في تعميق حالة الطلاق الحاصل بين الدولة و مؤسساتها و بين المواطن! و بذلك سيكون الحضور للولاءات الفرعية وحدها!
و الخلاصة مما سبق هي أنه من المتعذر أن تنجح أي محاولة للإصلاح السياسي أو الإقتصادي أو الإجتماعي دون أن توضع المنظومة القانونية الحقيقية ( قوانين الإنتخاب و الأحزاب خصوصاً ) و بشكل عاجل . ذلك أن الإصلاح في أي مجال يعتمد بشكل رئيس على متانة العلاقة بين الدولة و المواطن ، و التي لا يمكن أن تكون دون أن تتحقق تلك المتانة في العلاقة بين المواطنين و بين نوابهم .
تلك هي حافة الهاوية التي نقف عندها ، و تلك هي المطالب العاجلة و القصوى التي يجب أن يلتف حولها كل الشعب ، و إلا ضاع ما تبقى من جسد الدولة الأردنية!