12-03-2020 01:59 PM
بقلم : انس الخالدي
حَمَلتُ قهوَتي ذاتَ يومٍ واتَّجهتُ إلى البَحر. اتَّجهتُ هناكَ لأرى ذلك المنظرَ الذي طالما يملأ القُلوبَ بمشاعر تختلط ُ عِند رُؤيتهِ وتهمِسُ العيونُ بما في الخاطِرِ من جنونٍ لأجله. هُنا حيثُ الشَّمسُ الخَجولةُ ما بعدَ يومٍ ماطرٍ في اسطنبول جلستُ أمامَ لحنِ الموج وعزفِ البواخرَ المُمتَلئة معَ أسرابٍ من طُيورِ النَّورَس التي تهبطُ تارةً في المِياه وتارةً على اليابسةِ، تسرقُ قلبي بجمال لونِها الأبيض.
أستنشقُ رائحة قهوتي مع أوّل رشفة، تتغلغل إلى أعماقي، قهوتي مُرَّةٌ دائمًا، حُلوَةٌ بمذاقها الطيّب، أذكُرُ قوْل درويش " لا قهوةَ تُشبهُ قهوةً أُخرى، لكلّ بيتٍ قهوتهُ ولكلّ يدٍ قهوَتها لأنَّه لا نَفس تُشبهُ نَفسًا أُخرى ". هل تشعرُون حقًا بطَعمِ القَهوَة كيف يتغيّر تبعًا لمكاننا أو مشاعِرِنا أو حالتنا المزاجيّة؟ لتكون صديقًا وفيًّا وسنَدًا دائمًا؟ المجدُ للقهوةِ، وما تفعَلهُ بنا.
أراقبُ عن كثَبٍ ذلك الطِّفلَ الخائفَ من المِياه وهو يُحاوِلُ أن يقتَرِبَ منها ليُشبِعَ فُضولَه ويجِدَ إجاباتٍ على أسئلتِه حوْل البحرِ والسّماءِ والطّيور. بجانبهِ امرأةٌ تقفُ كظلِّهِ خشيةَ أن يتأذى! نعم هذه الأم، بعطفها وحنانِها.
ما إن التفتُّ جانبًا إلا أن رأيتُ ذلك الكهل الذي يقِفُ أمامَ عربتهِ الحَمراء، تفوحُ من عنده رائحَةُ شواءِ الكستَناءِ الجملية التي تُشعِر بالدِّفئ، يبيعُها بثمَنٍ زَهيدٍ ليجني قوتَ يوْمِه. أمّا عن ابتسامَتِهِ التّي تجذبُ الجميع، فهو يُخفي خلفَها الكَثيرَ من الهُموم، هي الدُّنيا، وأعلَمُ أنّها زائلة.
غدوتُ أنظُرُ هنا وهناك وأتمعَّنُ جيِّدًا في جمالِ الطَّبيعةِ السّاحرة الذي يأخذُكَ بعيدًا جدًا، حينَها عادت بي الذَّاكِرةُ إلى الوراء سنينَ عِدّة ، طُفولتُنا والبَحر، والجلوس على رِمال الشّاطئ وبِناء القِلاع الرّمليّة وتزيينِها بالأصدافِ والقواقِع، ثمّ وبدون سابق إنذار، تأتي أمواجُ البحرِ لتهدِم ما بنيناه، لنُعيد بناء قلاع أخرى بلا كللٍ أو ملل، وابتسامةُ الحماسِ ترتسم على وجهنا.
على شاطئ البحرِ تغفو الكثيرُ من الأحلام، وتختبئ الأسرارُ والحكايات، فكم من مهمومٍ جلس هُنا وهو يشتكي همومَهُ وتَعَبه، ويُناجي رِمال البحرِ وموجاتِه؟
كم من مُشتاقِ جلسَ هُنا يشتكي لوعَة الفراق؟ علّه يجِد ما يخفّف عنه ألَمَه، فشاطئ البحرِ مُستَمِعٌ جيّدٌ وصديقٌ وفيٌّ لمن يجلسُ إليه، ولا يُمكن أن يفشي بسرِّكَ مهما طالَ الزّمان، يكونُ دائمًا بانتظارِكَ عندَ تزاحمِ هُمومِك، عندما لا تجد مَن يسمعُكَ، ستجدُ البحرَ دائمًا بشاطِئهِ ورِمالهِ مستمعًا جيّدًا لك، حيثُ يُمكِن لضَعفِك أن يَخرُجَ وقتها، دمعةٌ مع رجاءٍ من هُنا، وصراخٌ من هُناك، وعِند الانتهاء ستذهبُ دون أن تكون بحاجةٍ لتوصيهِ بأن لا يُخبِر أحد، فهُو حافِظُ الأسرارِ، صديقُ كلّ مَهموم.
بدَأَت مياهُ البحرِ تختلِطُ مع خُيوطِ أشعّة الشّمس وقتَ الغروب، وأصواتُ الأمواجِ تغرِسُ الأشواقَ في قلبي.
كُنت أترقَّبُ هذه اللّحظة لأرى عناقَ الشّمس للبَحر، تودّعه وتُرينا لوحَةً من جمال الطّبيعة الأخّاذ.
أودُّع أنا البَحر، وأودّع يومًا مميّزًا مضى من حياتي، أعودُ إلى منزلي، مع ذكرياتِ أوقاتٍ جميلة برفقة قهوتي، وشاطئ البحر.