21-03-2020 04:01 PM
بقلم : فداء المرايات
لطالما استنجدت الأرض بكل ما عليها من تنوع بيولوجي ككائنات وغطاء نباتي وأنظمة حياتية من وحش مرعب ومستهلك سلبي يدعى الانسان .. عبثا تحاول ..
لطالما تحدث منقذي البيئة وحقوق الانسان بأن يساعد الانسان اخيه الانسان .. عبثا ..كل الاحاديث والمطالبات في اروقة النسيان
لطالما استنكر دعاة السلام كل اشكال الانتهاكات الممارسة ضد الانسان ، كل تلك الكوارث والاضطهادات ، وجميع تلك التصفيات والتشرذم والمقامة على ايدي سماسرة الحروب عبثا .. لا يتوقف الانسان
اليوم توحد المجتمع الدولي بطبقاته ( العالم الاول والثاني والثالث ) على شأن واحد قد يؤول الى مصير واحد ايضا فلم تنفع كل المحاولات في تقريب وجهات النظر وكل مساعي السلام كانت غير كافية في سد الفجوة وازالة النكبات وانهاء المجاعات وايقاف استخدام السلاح وازالة كل العراقيل مابين المسافة الواقعة ضمنيا بين دول الشمال ودول الجنوب إلى أن حلت كارثة انسانية اجتماعية اقتصادية تجوب 162دولة حول العالم بنهاية مفتوحة..
فهل أغضب الانسان الطبيعة حتى انقلب عليه الوجود بهذا الشكل ؟؟
كبرى العواصم واجمل المدن واقوى الاقتصاديات باتت في مضمار هذا الوباء .. الجميع يقاوم فالمطارات اليوم خاوية وجميع وسائل الترفيه وارقى الاماكن حول العالم وكل ما رأيناه من متع الحضارة والتقدم وعجائب صنع الانسان المخترع سواء بأم أعيننا أم من وراء الشاشات لم يعد يلفت انتباه البشر ، لم يعد يروق للانسان الذي تحدى سر وجوده منذ آلاف السنوات - عبر أطماعه ودأبه نحو المزيد - أي شيء فالخلاص وجهته الحالية والوحيدة فقط ..فها هو الآدمي الواحد اليوم يفر من أعز ما يملك وقد اتخذ على نفسه قمقما لا يعلم مدى تحمله ليحميه من هذا الوباء المجهول الأبعاد ..
هذه الازمة الكبيرة (فيروس كورونا COVID-19 ) على اختلاف اسبابها وتعدد الروايات حولها فأني سأجردها في كتابتي هذه من السيناريو السياسي او بمعنى أدق تدخل الدول ( بروباجندا - حرب بيولوجية ) حيث أن هذا الجانب طويل ومتشعب وحمال أوجه عديدة سأتحدث به لاحقا ، لذا سأبحث بها من زاوية الشعوب الغارقة في الأزمة ، تلك الاخيرة التي صنعت في وعي الانسان - على اختلاف مكانه وجنسيته - شيئا من الذهول والحتمية المقلقة والكثير من الابتعاد عن الآخرين وشؤونهم ايضا فما ان انشغل الانسان بنفسه حتى تناقصت كمية المشاحنات والتطاحن المجتمعي الذي نشاهده دوما ففي هذه الآونة وحدها غريزة البقاء تسيطر على كافة غرائز ومشاعر الانسان ..
نشعر اليوم وكأن الأرض تقلصت وضاقت على البشر ، وكأن الآفاق التي لم تملأ يوما قناعة الانسان اللامنتهية وشهوته تلك المتجذرة من حب الدنيا ، هذه الآفاق الشاسعة قد انكمشت وكأنها تبددت ولم تعد موجودة في حضرة فيروس صغير جدا وهذه المفارقة العجيبة تذكرة للانسان ليس فقط على المستوى الديني بل على المستوى الاخلاقي والانساني أيضا ، فكم من نفوس تزرع - من العدم - في وعيها مشاعر سلبية كالكراهية تجاه اشخاص بعينهم او حتى مجتمع بأكمله ونحو الاماكن والاسماء دون ادراك حقيقي للكينونة ، يصنعون في دواخلهم هالات من الشر حول الآخرين دون أن يتقربوا منهم أو يدركون حقائقهم ،يصدرون الاحكام المسبقة ، يبرعون في اختلاق المشكلات وهذه ليست اسوأ النفوس بل هناك الأسوأ على الاطلاق ما يتخطى حواجز الشعور ليحقق الضرر المادي أو الملموس بدءا من افراد وانتهاء ً بدول تصنع اطماعها المؤطرة بالشر المطلق آلاف الخسائر والصدمات ..
اليوم لم تعد العزلة التي رافقت الكثير من المرضى والوحيدين والشعراء والكتاب والانطوائيين شأنا خاصا وحالة اجتماعية غريبة بل بات يشاركهم فيها العالم أجمع ، فهي اليوم تتصدر عبر كل وسائل الاعلام حول العالم في حلتها الجديدة كطوق نجاة انطلق من ووهان .. وها هي الدول انطوت على ذاتها ، كسيدة ساخطة ترفض استقبال احد داخل منزلها ، وهاي هي تلك المطارات هنا وهناك ضجت شاشاتها واجهزتها في الموعد الاخير للطائرات دون موعد معلوم لاستئناف حرية التنقل من جديد ليقبع بعد ذلك في صالاتها الصمت المطبق ، كطعنة حقيقية في جسد العولمة والانفتاح ، ومثالا واقعيا حاضرا على فشل أطروحة مؤسس علم الاقتصاد آدم سميث " دعه يعمل .. دعه يمر " ..
الازمة التي بدأت بالانزواء ستمر بمراحل ابعد من الانزواء نفسه - على كافة الجوانب - بل انها ستبلغ شكلا من اشكال الهروب من الواقع - كمرحلة متقدمة - وهذا ما يعد التحدي الذاتي الاكثر صعوبة للانسان في عزلته فبعد اجتيازه مرحلة الابتعاد عن مصادر الهلع المحتملة من فيروس كورونا سيدخل في مرحلة التكيف على الأمر الراهن والتي تسمى هذه المرحلة هروبا وهو أمر شديد الارهاق ولا يمكن للعقل البشري ان يجاري الحال بسهولة لذلك تم اعتبار الهروب من الواقع في كتب الطب وبمراحل معينة كحالة من حالات المرض النفسي التي يكتفي خلالها الشخص بملازمة غرفته وأجهزته كالتلفاز واللاب توب والموبايل وينعزل فترات كبيرة عن العالم الواقعي الذي يعيش فيه ويكون سعيداً نوعا ما بعالمه "الافتراضي" ..
وعلاوة على الضرر الاقتصادي والتجاري من جراء هذه الازمة فهل سيتعافى الانسان من شروره في عزلته هذه ويدرك حجمه ودوره الحقيقيين في الكون أم سيخرج للعالم بعلة نفسية جديدة وتمرد أشد وطأة مما سبق ؟
الآن يجد الانسان نفسه ضعيفا مهما بلغ تقدما وتعنت رأيا واستزاد علما وتبحر في دنيا المال والأعمال كفرد وكشركة ومدينة ودولة بل وقارة فلعقود ممتدة بلغ الاغتراب الانساني أوج مراحله واحلكها حيث كان الانسان يموت لتحيا الاشياء ، اليوم يحدث العكس تماما الاشياء تموت في محاولات ليحيا الانسان ..
كما وظل الانسان معتقدا بأنه يتحكم في كل ما صنع من سلاح وحقق من ازدهار ومنصات اقتصادية وتكنولوجية والتسليح في الفضاء الخارجي لكنه لم يعلم بأنها تتحكم به دون أن يدرك ، لينادي الحاضر الحقيقة المنسية والتي تعيد الازمة انعاشها بعنف في وجدان الوعي الجمعي العالمي بأن البشر سواسية لا أحد يحق له بأن يتعالى على أحد ولا مجال للمفاضلات وبأن جميع ما يحدث على هذا الكوكب من اضرار تنعكس على البشرية جمعاء بطريقة أو بأخرى بدءا من الاحتباس الحراري لتلوث المحيطات للحروب للازمات الاقتصادية وآخرها الاوبئة فالأرقام التي تتزايد بشكل مخيف ما بين اصابة ووفاة بالآلاف جراء هذا الفيروس حتى هذه اللحظة التي اكتب فيها تؤكد عجز الانسان فهو يواجه أزمتين الاولى في انتشار الفيروس والثانية في استقرار الاقتصاديات المتضررة ..
فهل سيصمد الانسان في عزلته وهروبه من واقع شبح الكورونا ؟ وهل صنع لنفسه على هذه الارض ما يجعله ينجو من هذه الأزمة الكبيرة والعابرة للقارات والمتعالية على كل اشكال الحدود ؟! وهل الضرر الاقتصادي العالمي طويل الاثر ليتأتى عنه نهوضا جديدا وصحوة اخلاقية لصنع بداية اقل حدة وتزمتا من تلك التي انطلقت عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية باعتبارها كارثة انسانية ؟
وحدها الأيام التي منحت الانسان فرصة جديدة في البحث في نفسه واسباب وجوده على هذه البسيطة ، من ستجيب على مدى كفاءته للبقاء ومدى انتمائه لهذا الكوكب ؟!
ملاحظة : ان استخدام كلمة انسان جاءت بمعناها الأصيل أي المجرد من كل انتماءات كما وأن السؤال الاخير حول كفاءته بالبقاء لا تعبر بالضرورة عن من يصاب بالفيروس او من يتوفاه الله من جراء الاصابة انما هي مفردات تصف وتحاكي جدلية الانسان مع الوجود وحجم تحدياته في ظل أزمة كورونا ..
وفي الختام نسأل الله السلامة بوجه خاص لأمتينا العربية والاسلامية وبوجه عام لسائر البشرية جمعاء ..
فداء المرايات