25-03-2020 04:12 PM
بقلم : أ.د عبد الناصر هياجنة
كلية القانون – جامعة قطر
يعتبر الأمن الغذائي أحد أهم عناصر الأمن الاستراتيجية لأي دولةٍ في مواجهة الكوارث الطبيعية والبشرية. ولقد أثبتت الزراعةُ دائماً قدرتها على تغيير موازين القوى وتوفير خيارات الاستقلال والاكتفاء لشعوبٍ تعرضت لأزماتٍ كادت تُطيح بكيانها واستقلالها. والزراعةُ حضارةٌ، قبل ذلك وبعده.
من هذا المنظور تولي دولة قطر الزراعة اهتماماً استثنائياً لتحقيق الأمن الغذائي في مساراتٍ أبرزها الأمن المائي، والأمن الغذائي بشقيه النباتي والحيواني. وهي تفعل ذلك تطويعاً لبيئةٍ صعبةٍ وظروفٍ مُناخية ضاغطة، ولكنها تُمارسُ خياراً استراتيجياً لدعم الأمن الغذائي لشعبها، وضمان استقلال الدولة وحماية سيادتها الوطنية في مواجهة الضغوط، فلا بأسَ بتحمل الثمن وخوض التجربة، تجربة تحرر الخياراتِ الوطنية من الاعتماد على المتغيرات الجيوسياسية، وتعزيز الاستقلال الوطني في مواجهة الأهواء والرغبة في فرض التبعية والإلحاق.
لقد كانت السنواتُ الأخيرة فرصةً ذهبية لإعادة الاعتبار للقطاع الزراعي ودعمه على مستوى التشريع والإدارة والممارسة. فشهدت دولة قطر ظهوراً للعديد من الشركات والاستثمارات الموجهة لزيادة الإنتاج الزراعي، النباتي منه والحيواني، كما شرعت الدولة بتنفيذ مشروع الخزانات الاستراتيجية للمياه العذبة، ومشروع تخزين المواد الغذائية لكفاية حاجة الدولة والوفاء بمتطلبات السوق المحلي خلال الأزمات وتوفير مخزونٍ آمنٍ لفتراتٍ زمنيةٍ معقولة، فضلاً عن التصدير وتنويع الموارد.
حدث ذلك بدرجة كبيرة تحت ضغط الأزمة من جهة، ولإيمان صانع القرار بأن الوقت قد حان لممارسة كل الخيارات المتاحة، وليس من وقتٍ أفضلُ للبداية من الآن، فانطلقت الدولة رسمياً وشعبياً لمواجهة التحدي وكسب الرِهان، وكان ما تحقق، والقادم أفضل؛ لأن الخبرة تعلّم، وتراكم التجارب يُفيد ويرفع كفاءة الأداء.
الشاهد في هذا العرض الموجز، هو القيمة الاستراتيجية للزراعة، والتي لا يمكن النظر إليها فقط من زاوية اقتصاديةٍ أو رقميةٍ بحتة؛ فالواقع يشهد بأن الزراعة هي بداية كل استقلال وضمان كل سيادة. وأن الزراعة بما توفره من منتجاتٍ وفرص عملٍ وصناعاتٍ مساندة يمكن أن تكون رقماً صعباً في الاقتصاد الوطني لأي دولة، فضلاً عن مساهمتها الأساسية في تحقيق الأمن الغذائي الذي يشكل أحد مرتكزات الأمن الإنساني بمفهومه الواسع.
هذه الأيام تواجه دول العالم أزمةً عميقةً مستمرةً بلا أفقٍ محددٍ لنهايتها، ومن المؤكد أنها ستترك آثاراً بعيدة المدى في كل المجالات الإنسانية والسياسية والاقتصادية وأنماط عيش الناس، وسيكون مطلوباً إعادة ترتيب أولويات الأفراد والمجتمعات والدول، والتركيز على القطاعات الحيوية كالزراعةِ؛ لضمان استمرار الحياة وتحسين جودتها في إطار دعم ريادة الأعمال التي أصبحت شعاراً يتغنى به الجميع. هي دعوة لدعم القطاع الزراعي في كافة الدول بالتشريعات والمؤسسات والتقنيات والأموال والبنى التحتية والخبرات؛ ليكون رافداً للاقتصاد الوطني وضامناً للأمن الإنساني واستقلال الأفراد والدول.