04-04-2020 11:55 AM
بقلم : أ.د عبد الناصر هياجنة
تطرح أزمة انتشار وباء "كورونا" والتدابير المتخذة لمواجهته من مختلف الدول والجهات أسئلةً وتحدياتٍ قانونية جدية على مختلف الالتزامات التعاقدية التي تأثرت بها، فبعض العقود لم يعد ممكناً تنفيذها، وبعض العقود أصبح تنفيذها شاقاً ومرهقاً لأحد المتعاقدين أو كليهما. وسيكون لذلك تبِعات قانونية واقتصادية بالغة الأهمية على مجمل النظام الاقتصادي والقانوني الوطني في داخل كل دولة، وبشكلٍ أوسع نطاقاً في إطار العقود الدولية. وسيكشف الواقع عن نزاعاتٍ قانونيةٍ واسعةِ النطاق في أروقةِ المحاكم وأمام هيئات التحكيم.
لقد جابهت التشريعات المدنية الحالات التي تطرأ فيها ظروفٌ استثنائية تؤثر على الالتزامات التعاقدية، ووضعت لذلك حلولاً ومقارباتٍ تشريعيةٍ أو خياراتٍ قضائية تأتي في مجملها في إطار أهداف أبرزها احترام مبدأ حُسن النية ومبدأ القوة الملزمة للعقود وحماية استقرار المعاملات وإعادة التوزان الاقتصادي والمالي المفترض للعقود وتحقيق العدالة وفي ظل المبادئ العامة للالتزام بالممكن فقط والحد من النزاعات. وتتركز هذه المجابهات التشريعية في نظرية الظروف الحوادث الاستثنائية ونظرية القوة القاهرة ويعلم المتخصصون ماهيّة هاتين النظريتين وضوابطهما وشروطهما وأحكام كلٍ منهما ونقاط الاتفاق والاختلاف بينهما.
وفي إطار الرأي القانوني، فإن أي مقاربة لآثار جائحة "كورونا" على الالتزامات التعاقدية لا بد أن تراعي ظروف كل تعاقد، فليس صائباً وضع حلٍ واحد لمجمل العقود والنزاعات، وإن كان ذلك يخفف الضغط على الهيئات القضائية وهيئات التحكيم؛ إلا أنه قد لا يكون الحل الأمثل والأوفق في تحقيق العدالة. بل نرى أن الأوفق هو النظر إلى كل حالةٍ بظروفها وحيثياتها وملابساتها ومعطياتها؛ لبناء موقفٍ قانوني راشدٍ يحقق المصلحة بأدق معانيها وأوسعها؛ وعليه فلا يصح بشكلٍ كامل اعتبار الجائحة وما تبعها من تدابير من قبيل الظروف الطارئة أو الحوادث الاستثنائية العامة التي لا تقود إلى انفساخ العقود وإنما تمنح المحكمة الحق والصلاحية للتدخل وإعادة التوزان للعقد من عن طريق رد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، وبالمقابل فليس صحيحاً بشكلٍ كامل اعتبار الجائحة والتدابير التي أعقبتها من قبيل القوة القاهرة بصفة عامة والقول بانفساخ العقود وانقضاء الالتزام "المستحيل" والالتزام المقابل له. فلا يبقى والحال كذلك إلا أن تقف المحاكم وهيئات التحكيم على تفاصيل وملابسات كل عقدٍ ونزاع لتقدير الموقف القانوني بدقةٍ وحكمة، واختيار الحلول المناسبة وفق النصوص، أو ربما ترى ضرورة تأويل النصوص واجتراح مقاربةٍ قانونيةٍ واقعية أكثر ملائمةً وتحقيقاً للعدالة والمصلحة.
ولمجابهة هذه الاحتمالات فإننا نأمل أن يتناول القضاء نصوص مواد القانون المدني ذات الصلة بشيءٍ من التأني والدراسة العميقة لتقدير الموقف القانوني وفق الظروف وواقع الحال. وأن يتبدع في إطار النصوص أو بتأويلها حلولاً خلّاقةً تخدم الاعتبارات والأهداف العامة في التشريعات المدنية والمبادئ الحاكمة في إطار نظرية الالتزام والعقود وتراعي الحالة التي فرضتها جائحة "كورونا" والتدابير المتخذة لمجابهتها.
وليس خافياً ما تحتاجه المسألةُ من تأويلٍ وتحليلٍ وتفصيل تنوء بحملها مقالةٌ صحفية وتسعها البحوث والدراسات المفصّلة والمتخصصة. ولكنها على العموم تُشكّل فرصةً ذهبيةً للقضاء الوطني والمقارن ولهيئات التحكيم الوطنية والدولية، لممارسة أقصى درجات التأمل والإبداع واجتراح الحلول القانونية والقضائية المثلى لتحقيق العدالة ومراعاة السياسات التشريعية وخدمة الأمن المدني للعقود والمتعاقدين.
أ.د. عبد الناصر هياجنه
كلية القانون – جامعة قطر