15-04-2020 03:32 AM
بقلم : د. طالب الرفاعي
استمعت بالأمس الى حديث معالي وزيرة السياحة والآثار، السيدة الفاضلة التي تحاول بجهد كبير انتشال هذا القطاع الهام وإعادته لضخ الحياة في اقتصادنا الوطني استمعت لها وهي تشرح الإجراءات الحكومية لإنقاذ قطاع السياحة من تبعات كورونا، ومرت بخاطري الكثير من الأفكار من محصلة التجارب الدولية وقررت ان احاول تلخيص ذلك في بعض ما سيلي:
لماذا السياحة والسفر؟
السياحة اليوم لم تعد مجرد رحلة لارستقراطي إنجليزي او أوروبي يسافر الى الهند او الى الصين ويعود ليؤلف كتابًا عن تلك الزيارة، فلم تعد السياحة والسفر مقصورة على الأغنياء، السياحة والسفر اليوم تجاوزت حدود القطاع الاقتصادي لتصبح نشاطًا انسانيا كبيرا، يمارسه كل الناس، الشرقي و الغربي،الشمالي و الجنوبي،و الغني و الفقير، ففي العام ٢٠١٩ سافر حوالي ١٦٥٠ مليون شخص قاطعا حدودًا دولية و هذا يعني ان ١/٥ تقريبًا من سكان الأرض يقوم برحلة خارج وطنه كل عام، و قد تجاوز الدخل العالمي للسياحة، ٣ مليارات دولار يوميا وهو مجموع ما ينفقه الزوار يوميا في أنحاء العالم، و يوفر هذا النشاط الإنساني ١/١٠ من فرص العمل عالميا كما يساهم في ١١ ٪ من الناتج القومي العالمي. السياحة و السفر تمثل اليوم ثالث اكبر قطاع تصديري في العالم بعد النفط و الكيماويات. السياحة، كما آمنت دائما، هي "النفط الذي لا ينضب"، فالنفط في نهاية الأمر ينضب أما السياحة فكلما رعيناها إعطائنا اكثر.
ولكن الأهم من الدور الاقتصادي للسياحة والسفر هو الدور الإنساني في تقريب الناس من بعضهم البعض، و بالتالي تثبيت دعائم السلم العالمي، فلا يمكن لأي زائر لشعب زاره في وطنه، تناول الطعام مع أهله، واستمع الى قصصهم و احلامهم، و تعرف عليهم كبشر ان تتكون لديه صورة نمطية سلبية عن ذلك الشعب. فالتفاعل و التفاهم بين البشر لابد له من ان يقوى باحتكاك الناس مع بعضهم البعض. و هذا بلا شك يقوي السلم العالمي، و ليس أفضل ولا أقوى من السفر لتقوية هذا التفاعل
السفر اليوم اصبح ضرورة إنسانية، بل أقول حقًا انسانيا
حقي في السفر في ارض الله
حقي في السفر للعلاج
حقي في السفر للتعليم
حقي في السفر للترويح عن النفس
فقد قال تعالى: "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
وقيل من فضل السفر أيضا: أن صاحبَه يرى من عجائب الأمصار، وبدائع الأقطار، ومحاسن الآثار، ما يزيدُه علمًا بقدرة الله تعالى وحكمته، ويدعوه إلى شُكر نعمته، ويجمع المكاسب، ويسمع العجائب، ويكسب التجارِب، ويفتحُ المذاهب، ويشدُّ الأبدان، وينشِّط الكسلان، ويسلِّي الأحزان، ويطرُدُ الأسقام،
لمادا الأردن؟
الأردن من مقاصد العالم التي ينظر اليها الناس بالكثير من التشوق والرغبة الحقيقة في تجربة الزيارة،، ليس لاننا نملك كنوزا كبيرة من التاريخ و الآثار الهامة، او الطبيعة المتميزة، او الشعب الطيب المضياف، فكل مقصد في العالم يستطيع ان يقول للعالم ان لديه اكثر و اكبر و اجمل مما لدينا، فليس المهم ما لدينا، المهم ماذا نفعل بما لدينًا،و هنا تأتي قصة النجاح الاردنية الحقيقة،فقد كان الأردن على الدوام وما زال جادًا بتطوير السياحة وهذا هو في الحقيقة آلسبب الأساسي في النجاح المميز للأردن فنجاح السياحة في الأردن يكمن في الإرادة السياسية و الإيمان بأهمية هذا النشاط الإنساني الهائل.
فعلى الرغم من ان هناك الكثير من الدول التي لم تأخذ السياحة على محمل الجد، لأسباب كثيرة، ربما لان لديها بدائل أخرى كالنفط او ما شابه ذلك او ربما لقناعتهم انه ببساطة ليس قطاعا جديا يستحق بذل الجهد فيه، فهو بنظرهم ليس اكثر من أغنياء شقر ذو عيون زرقاء يستلقون بكسل على الشواطىء، أما الأردن فقد امن بان السياحة هي نفطنا الذي لا ينضب، وهذا سبب نجاحنا ولقد كانت الأزمة التي مررنا بها في احتواء الفيروس والكفاءة التي تعامل بها الأردن مدعاة فخر لنا جميعًا، بل ساهمت في زيادة الاحترام للأردن عالميا، فرب ضارة نافعة.
ماذا بعد الكورونا؟
السياحة هي بدون شك اكثر قطاع متضرر من هذه الازمة وما سيليها، وهو سيكون بلا شك من اخر القطاعات التي تستعيد عافيتها، فلا سياحة دون سفر و السفر،لأسباب معروفة، متوقف تمامًا الان و بعكس قناعات الكثيرين فلن تكون العودة للسفر و بالتالي للسياحة سهلة او سريعة مهما حاولنا، فالعالم سيبقى متخوفا لفترة قد تطول، والسفر خاصة من مقاصد الطيران البعيدة لن يعود غدًا او بعد غد.
ماذا نفعل إذًا و كيف نحافظ على ١٤٪من ناتجنا القومي و نحفظ ٥٥ الف فرصة عمل مباشرة و أضعاف ذلك فرص عمل غير مباشرة ؟، كيف نحافظ على نفطنا؟
هذه محاولة متواضعة لطرح بعض الأفكار، ليس بالضرورة لتنفيذها بحذافيرها،بل لتكون ارضية لحوار موسع يشترك فيه القطاع العام مع القطاع الخاص و المجتمع المدني، فبدون هذه الأرضية المشتركة لن نستطيع التقدم الى الأمام على الإطلاق.
لا بد لنا أولا ان نثبت بعض الأسس العامة و المهمة جدا في هذا المجال و التي تاكدت على مدى العقود الماضية من تاريخ السياحة و السفر، وثبتت بالتجربة،
١. ان اعتماد الاقتصاد الوطني لأي دولة يزيد عن الحد على السياحة ليس أمرًا صحيًا، فزيادة مساهمة السياحة في الناتج القومي عن ٢٠ ٪ فيه شيء من الخطورة.، فعلى الرغم من ان السياحة قطاع يستعيد عافيته بسرعة كبيرة و يعود أقوى مما كان إذا توفرت الإرادة السياسية، فهو أيضًا قطاع حساس و معرض للتراجع بل التوقف الكبير و المباشر عند اول أزمة تعصف بالمقصد، وهذه الازمة مثال على ذلك.
٢. الاعتماد الزائد عن الحد على مقصد محدد للسياحة الوافدة، كأوروبا او الولايات المتحدة مثلًا، فيه الكثير من المخاطرة و هي كمن يضع كل البيض في سلة واحدة. لا بد من تنوع مصادر السياحة الوافدة و الاعتماد أولا على السياحة الداخلية تليها السياحة الإقليمية قبل التوجه الى السياحة بالطيران المتوسط او بعيد المدى.
٣. ان الأسوار بين السواح الزوار، والمجتمع المحلي يجب ان تنخفض الى ان تختفي، فليس صحيًا ان يأتي الزائر الى بلادنا و يعيش في فقاعة.فهذا امر غير صحي لا اجتماعيًا و لا اقتصادي فعزل الزوار عن الناس فيه ضرر اجتماعي حيث يحرم الزائر من التعرف على و احترام و تقدير المجتمع الأردني و التعرف على ثقافته و دفء طبيعته، كما يحرم السياحة، نفطنا الذي لا ينضب
هذه بعض النقاط التي اعتقد بصدق اننا يحب ان نراعيها حال عودة الحياة لقطاع السياحة و ذلك لضمان استدامة القطاع و عودته الى ما هو أقوى و اصلب مما كان عليه فنحول الازمة الى فرصة و لكي يعود القطاع ليس فقط الى ما كان عليه بل الى حالة أقوى و اصلب.
و لكن ما هي المتغيرات التي احدثتها أزمة لكورونا و كيف نتعامل معها ؟
لا بد لنا أولا من الاعتراف بان العالم بعد الكورونا لن يكون أبدا كما العالم قبل الكورونا، و قد سمعنا هذا كثيرا و لكن لا فائدة من ترداد هذه العبارة إذا لم نبدأ فورا بدراسة التغيرات المتوقعة و الاستعداد لها
فما هي التغيرات المتوقعة على السياحة في الأردن و كيف نتعامل معها ؟
١. لابد لنا ان نقرر حجم رغبتنا في نسبة نمو هذا القطاع فالاقتصاد الكلي اهم من أي قطاع محدد و الحقيقة ان نمو الاقتصاد الكلي أساسه هو انتعاش مكوناته ومنها السياحة و لهذا فيجب توظيف السياحة أساسًا لخدمة القطاعات الأخرى و الاقتصاد الكلي وخدمة الوطن ولا بد من توظيف امكانات هذا القطاع لخدمة المجتمع في مرحلتي الاحتواء و الانتعاش. و احد اوضح الأمثلة على ذلك ما قامت به الحكومة من استعمال الفنادق في عمان و في البحر الميت و العقبة للحجر الصحي للقادمين من الخارج، و لا يخفى ان هذا فيه فائدة للفندق كما هو للحكومة وقد ظهر الأردن قويا و محترم لاهله و لشعبه. و يمكن أيضا لقطاع الطيران و النقل السياحي و المطاعم ان تكون جزء من هذا التفكير الصحيح سواء كان ذلك في مرحلة الاحتواء او مرحلة الانتعاش.
٢. اصبح واضحا ان الأسواق التقليدية لن تعود الى نشاطها سريعا. و لا بد من التركيز على السياحة الداخلية و ثم الإقليمية القريبة منا جغرافيا وثقافيا. فلقد آمنت باستمرار ان البلد الذي لا يعرفه ويسافر فيه وبداخله أهله و شعبه أولا، لا يجوز ان يكون في الأساس متاحًا للأجانب. فدول العالم المتقدم مثلًا تكون فيها السياحة الداخلية الأساس و يستفيد الشعب من كافة المرافق التي تم الاستثمار في إنجازها في المناطق السياحية و الطرق و الشبكات التي تربطها بباقي المرافق الأخرى في الوطن فالوطن الذي لا يستمتع به أهله و جيرانه لن يستمتع به الزائر البعيد. وهذا يتطلب تغييرا أساسيا في الاستراتيجية و في خطط و برامج التسويق و خصوصا خطط هيئة تنشيط السياحة
٣. لا بد من ادراك ان الأزمة ادخلت تغييرا كبيرا و سريعا على طريقة تفكيرنا خصوصا فيما يتعلق باستعمال تكنولوجيا المعلومات، فقد اثبتت الازمة ان كل شىء يمكن، إذا كنا خلاقين، ان يكون " عن بعد " ليس فقط التعليم والمعاملات الحكومية و البنوك و علينا هنا ان نفكر بشكل خلاق و " خارج الصندوق " لاستعمال تكنولوجيا المعلومات في الأعمال و النشاطات السياحية، ليس فقط في الحجوزات و ما شابه ذلك مثلا، يذكر بيل جايتز مثال اليونان و التي أشهرت في الأيام الأخيرة مشروع " اليونان من بيتك " , " Greece from home " و آلتي قامت به اليونان بالشراكة مع جوجل، و هي عبارة عن مجموعة من الأفلام التي تشرح و تسهل معرفة اليونان دون زيارته، الان على الأقل. و الهدف الأساسي منه هو تشويق و ربط زائر المستقبل باليونان و إبقاءه مربوطا بالمقصد ترقبا لزيارته عندما تتاح الفرصة.
٤. تكنولوجيا المعلومات يمكن ان تلعب دورا كبيرا أيضا في قطاعات ضمن السياحة خصوصا تلك التي تتطلب طبيعتها تجمع عدد كبير من الناس في مكان واحد، مثل المطاعم و التي يقترح بيل جايتز أيضا، ان يقتصر عملها، في المرحلة الانتقالية و قبل رفع الحظر الكامل، على توصيل الطعام للمنازل وان نتجهز ونعيد هيكلة إدارة هذه المطاعم و نعيد تدريب الكوادر في المطاعم كما في قطاع النقل لضبط عمليةالتوصيل. و يشمل هذا أيضا مثلا قطاع سياحة الموتمرات حيث يجب علينا اعادة تدريب الكوادر التي تعمل اليوم في الفنادق و قاعات الاجتماعات على مهارات جديدة تتطلب اجادة ترتيب الاجتماعات و المناسبات العامة، عن بعد. و هذا قد ينطبق أيضا على بعض النشاطات الأخرى ضمن بعض الفنادق مثل النوادي الرياضية و فعاليات أخرى و التي يجب ان نبداء فورا بترتيب و تدريب الكوادر لتحويل نشاطاتها لتصبح عن بعد و من منازلنا.
٥. اهم ما يواجهنا اليوم هو تحدي الحفاظ على القوى العاملة و عدم دفعهم من سوق العمل الى البطالة،و هنا لا بد لي ان اثني على مقترح القطاع الخاص و القاضي بدفع رواتب ٧٥٪ من رواتب العمال الذين تخصرهم الشركات السياحية و لمدة ٦- ١٢ شهر مثلا، و طالما هم لا يعملون و بحيث يقسم المبلغ المتبقي، ٧٥٪، بين جهات ثلاثة، صاحب العمل ٢٥٪، و الحكومة ٢٥٪ و صندوق التعطل عن العمل في الضمان الاجتماعي ٢٥٪. و هذا مهم حدا ليس فقط لإنقاذ العمال وإبقائهم في حالة مريحة نسبيا، ولكنه مهم أيضا لان الاقتصاد الوطني يحتاج الى التنشيط ولا سبيل لذلك الا بزيادة القدرة الاستهلاكية للناس. ففي وقت الأزمات يتوجب على الحكومة ان تضخ الأموال و تزيد قدرة الناس على الإنفاق و ليس العكس، لان في هذا منفعة للجميع بما في ذلك الكومة و التي ستزيد أساسًا من قدرتها على دعم موازنتها كلما زادت الأموال في أيدي الناس.
٦. يتوجب علينا اعادة النظر بمنظومة الضرائب و الرسوم و تخفيضها ليس فقط للتخفيف عن الناس و لكن كما أسلفنا، بهدف ابقاء كميات اكبر من الأموال بين يدي الناس و لزيادة قدرتهم الاستهلاكية مما يحرك عجلة الاقتصاد و يزيد من ايرادات الموازنة العامة كنتيجة لسيولة اكبر بين يدي الناس
هذه بعض الأفكار العامة و يجب ان اوضح هنا ان الأهم من تطبيق هذه الاقتراحات بحذافيرها هو، وجود خطة محددة يتفق كل الأطراف عليها بعد نقاش معمق فالحلول يجب ان تأتي من القاعدة الى القمة وليس العكس، هذه هي الضمانة الأساسية لنجاح أي خطة و استدامتها
حمى الله الأردن وعرش الأردن وحمى البشرية جمعاء