03-05-2020 11:59 AM
سرايا - انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي في الفترة الماضية منشورات وأحاديث ،يتوقع فيها أصحابها ارتفاع وباء كورونا قبيل منتصف شهر مايو ،وذلك بناء على روايات حديثية تفيد في مجملها أنه ما من وباء يحل بالناس إلا ويرفعه الله تعالى بطلوع الثريا، وقد أحببت أن أعلق بكلمات يسيرة حول هذا الموضوع ،فأقول وبالله التوفيق:
1-إن أصل ما ورد في هذا الباب متعلق بالعاهات التي تكون في الثمار ، وذلك كما في حديث ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تذهب العاهة ... ) وفيه أن الراوي عن ابن عمر وهو عثمان بن عبد الله بن سُراقة قال : ( فسألت ابن عمر : متى ذلك ؟ فقال : طلوع الثريا ) .
وهذا حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5105 ) وقد صححه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/23 )، وابن الأثير في شرح مسند الشافعي ( 4/ 13) ،وكذا صححه أحمد شاكر في شرحه على المسند . وقال شعيب الأرناؤوط : إسناده صحيح على شرط البخاري.
والثريا نجم في السماء ،والمقصود بطلوعها ظهورها للعيان بعد اختفائها مدة من الزمن ،فإنها تغيب كما ذكر المناوي في فيض القدير( 5/ 454) نيفاً وخمسين ليلة لقربها من الشمس ،فإذا بعدت عنها ظهرت في الشرق وقت الصبح .
وواضح من الحديث أن المقصود بالعاهة ما يصيب الثمار من الآفات ، وأن المقصود الأصلي منه ليس تحديد وقت ذهاب العاهة ، وإنما المقصود منه النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها ، وذلك ثابت في أحاديث أخرى صحيحة في البخاري ومسلم وغيرهما ، وكأنَّ ابن عمر أراد أن يذكر للسائل على وجه التقريب الوقت الذي يصح فيه بيع الثمار ؛لأنَّ الغالب أنه مع طلوع الثريا وبداية وقت الحر أن العاهة تنقطع ،ويبدو الصلاح في الثمار . ومثله ما أخرجه مالك في الموطأ ( 3/ 395) والبخاري تعليقاً في باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها من كتاب البيوع عن زيد بن ثابت ( أنه لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبين الأصفر من الأحمر ) .
2-ولكن هناك حديث آخر عن أبي هريرة وهو أنه صلى الله عليه وسلم : ( إذا طلع النجم ذا صباح رفعت العاهة عن كل بلد ) أخرجه احمد في المسند (9039)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (2286) باختلاف يسير ). فلم يذكر أن العاهة تكون في الثمار فقط ،وإنما ذكر العاهة بصفة عامة ، .ولكن هذا الحديث قد تكلم فيه أهل العلم وأكثرهم على تضعيفه وقد ضعفه الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند والشيخ الألباني في الضعيفة( 397) ، وحسنه بعضهم كالشيخ شعيب الأرناؤوط .
3-وبفرض صحة حديث أبي هريرة ، فإنه ينبغي حمل ما أُطلق فيه على ما جاء مقيداً في حديث ابن عمر بمعنى أنه إذا كان هذا الحديث قد ذكر العاهة بصفة مطلقة ولم يحددها ، فإن الحديث الآخر ،وهو حديث ابن عمر ،قد حدد العاهة المقصودة بأنها التي تكون في الثمار ، فنحمل المطلق على المقيد ، وهذا ما ذكره الإمام الطحاوي في شرح مشكل الآثار ( 3/ 345) حينما أراد الجمع بين هذين الحديثين فقد ذكر ما خلاصته أنه تأمل حديث أبي هريرة ،فلم يجد فيه ذكر ذلك النجم أي نجم هو ؟ فطلب ذلك في غيره من الأحاديث فوجد في حديث ابن عمر أنه الثريا ، وأن المقصود بالعاهة عاهة الثمار ، فيحمل هذا على ذاك ، ثم ذكر أن طلوع هذا النجم يكون في شهر بشنس بما يوافق الثاني عشر من آيار ( مايو ) ، كما ذكر الطحاوي أن المقصود بالثمار ثمار النخل ،لأنها هي التي تبدأ في الظهور في ذلك الوقت من السنة .
وهذا الذي ذكره الطحاوي من حمل المطلق على المقيد هو الصواب ،وهو الذي ذكره غالب من وقفنا له على قول في شرح الحديث ، وإن كانت الأمانة العلمية تقتضي أن أشير إلى أن هناك من أهل العلم قد مالوا إلى الأخذ بإطلاق ما جاء في حديث أبي هريرة ،وأن المقصود به عموم العاهات التي تصيب الناس في أنفسهم من نحو مرض ووباء ،أو في مالهم من نحو إبل وثمر ، وأنها ترتفع أو تخف بطلوع الثريا ،كما ذكره المناوي في فيض القدير( 5/ 454) .
5-لكني في الحقيقة لا ألمس وجاهةً لهذا القول الذي ذكره المناوي ،وذلك لأمور منها : ما ذكرناه من تضعيف أكثر أهل العلم لحديث أبي هريرة، ومنها أن الحديث لم يعين النجم المقصود ، وإنما هم يرجعون في تفسير النجم بأنه الثريا إلى حديث ابن عمر ، فلماذا لا يرجعون في تفسير العاهة أيضاً إلى حديث ابن عمر ،وهو أن المقصود عاهة الثمار فقط ؟ . ومنها أن تفسير النجم بأنه الثريا ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو اجتهاد من ابن عمر رضي الله عنهما ، وهو رضي الله عنه لم يكن مقصوده الحديث عن الأوبئة وانتهائها ، وإنما كان يقصد كما ذكرنا أن يبين للسائل على وجه التقريب متى يصح بيع الثمار ؟
ومنها أن الحديث عن أمر من الأمور الغيبية المستقبلية يجب الحذر فيه تماماً ، وعدم استنتاج وقوع حوادث معينة ما لم يرد بذلك نص صحيح صريح عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ، فلا يكفي في ذلك العبارات المجْمَلة ،وقد رأينا في حديث أبي هريرة أنه لم يبين النجم المقصود ، وتفسيره بأنه الثريا بناءً على أثر ابن عمر تفسير حسن ، ولكن لا يمكن الاعتماد عليه كليةً في الحديث عن أمر من أمور المستقبل ، وبخاصة أن ابن عمر كما ذكرنا لم يكن يقصد الإخبار عن أمر غيبي ،وإنما كان يتكلم عن شيء جرت به العادة عندهم كما بيناه آنفاً .
4-وعلى كل حال نحن نسأل الله العفو والعافية ،ونرجو الله سبحانه أن يرفع عنا هذا الوباء قبل هذا التاريخ الذي ذكروه . ولكني أرى أن من الخطورة بمكان نشر مثل هذه المنشورات التي تحدد -ولو على سبيل التقريب- وقتاً لانتهاء الوباء ، وذلك لأنه إذا نشر هذا الكلام الآن ،ثم قدَّر الله أن يتأخر رفع الوباء عن هذا التاريخ الذي ذكروه ،فإن ذلك سيعطي فرصةً لأهل الباطل الكارهين لدين الله عز وجل للتهجم على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل القدح في الدين كله كما هو معلوم .
وبههذ المناسبة فإني أكرر هنا ما نصحت به مراراً من أنه يجب علينا جميعاً أن نتثبت قبل نشر أي شيء يتعلق بأمر من أمور الدين ، فلا ننشر شيئاً إلا بعد التأكد من صحته ، ولا نسارع في الترويج لشيء من تلك الكتابات التي لا يُعرف مصدرها ،حتى نتأكد من صدق ما فيها ، ويكفي في ذلك أن أذكر بقوله: صلى الله عليه وسلم : ( كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع ). هذا والله أعلى وأعلم .
"الشيخ عبد الآخر حماد الغنيمي"