15-06-2020 03:39 AM
بقلم : طارق الحايك
كانت الثورة الفرنسية واحدة من أهم الأحداث في تاريخ البشرية، إذ غيرت مسار التاريخ الحديث حين كانت سبباً مباشراً في إنهيار المَلَـكيات المطلقة والتأسيس للجمهوريات، وانتهت بصعود البرجوازية والقضاء على نظام الحكم الديكتاتوري والاعتراف بحقوق الطبقة العاملة، والتي امتد تأثيرها لأنحاء أوروبا التي استلهمت من الثورة الفرنسية ربيعها الثوري عام 1848.
هذه الثورة غيّرت المفاهيم السياسية في التاريخ الحديث، وأعادت تشكيل الخريطة الجيوسياسية في العالم بأكمله، ومثلت النهاية الفعلية للعصور المظلمة حين أطلقت رصاصة الرحمة على النظام الإقطاعي، وأسست لنظام جديد يساوي بين المواطنين جميعاً، ما جعلها نموذجاً للثورات في العصر الحديث، وجعل مبادئها مرجعاً للعديد من الأنظمة السياسية فيما بعد.
دامت الثورة الفرنسية عشرة أعوام بدءاً من العام 1789 وحتى العام 1799 حين أنهى نابليون بونابرت الثورة بانقلاب على رفاق دربه وحصل على منصب القنصل الأول، ليصبح لاحقا الامبراطور الذي احتل معظم أوروبا، خلال هذه الأعوام العشرة، أعاد الفرنسيون تشكيل المشهد السياسي في بلادهم؛ فهدموا النظام السياسي، واقتلعوا مؤسساتٍ عتيقةً بلغ عمرها قرونًا من الزمان، مثل النظام الإقطاعي والملكية المطلقة.
وقد مثّـل اقتحام الباستيل البداية الحقيقية للثورة، حين استولى الثوار على السجن للحصول على مادتي البارود من أجل البنادق والمدافع، والقمح لصناعة الخبز، الخبز الذي لعلّه كان المحرك الرئيس للثورة، إذ إن الجوع كان منتشراً بين عامة الشعب الفرنسي بسبب شح المواد الأساسية كالخبز وارتفاع أسعار المحاصيل، ولذلك يرى البعض أن مملكة دامت قرونا أنهاها الجوع.
غياب العدالة الاجتماعية كان من أبرز الأسباب التي أدت إلى قيام الثورة الفرنسية أيضاً، فالمجتمع الفرنسي كان يتكوّن من ثلاث طبقات: طبقة النبلاء، وطبقة رجال الدين، وهما الطبقتان اللتان كانتا تحتكران الامتيازات مثل الحصول على الوظائف وعدم دفع الضرائب، وتمتلكان الأراضي ووسائل الإنتاج، أما الطبقة الثالثة وهي طبقة العمال أو طبقة عامة الشعب؛ والتي كانت تشكل غالبية المجتمع، فكانت محرومة من كل الامتيازات، إذ كان أبناؤها يدفعون الضرائب ويقومون بأعمال السخرة، ويتم إجبارهم على الذهاب إلى الحروب، ولذلك نقموا على النبلاء ورجال الدين.
وحين بلغ السيل الزبى ولم يعد أبناء الطبقة العاملة يطيقون هذا التمييز، بعثوا بشكواهم للملك لويس السادس عشر ولكن دون جدوى، فالملك كان متردداً وضعيف الشخصية ومسلوب الإرادة لزوجته ماري انطوانيت الغارقة في اللهو، وللنبلاء الذين يمثلون قوى الشد العكسي في أية عملية إصلاح سياسي أو اجتماعي في البلاد، لأن الإصلاح يعني سحب امتيازاتهم وتحجيم نفوذهم.
هذه التركيبة في نظام الحكم كانت أيضاً إحدى أسباب الثورة، فالبلاد واجهت في عهد لويس السادس عشر أزمة اقتصادية كبيرة بسبب دعمه لحرب الاستقلال الأمريكية، أزمة فاقمها نظام ضريبي غير عادل، كما أن اعتقال نخبة كبيرة من المفكرين زاد من سخط الناس على نظام الحكم.
عام 1789، اجتمع مجلس طبقات الأمة لبحث مسألة الضرائب، فأعاق النبلاء الذين كانوا يشكلون 2% فقط من الشعب الفرنسي عمل المجلس، ولذلك بدا أنه لا مفر من الثورة لإنهاء النظام الإقطاعي، والعمل على توزيع عادل لملكية الأرض وإلغاء امتيازات النبلاء، خاصة بعد قرار ملكي كان بمثابة القشّة التي قصمت ظهر البعير.
إذ أصدر لويس السادس عشر قراراً بفرض المزيد من الضرائب، وهو قرار رفضته الجمعية الوطنية ومنعت تنفيذ أي مراسيم يفرضها دون أن تقرها الجمعية، فقام الملك بحظر دخول النواب إلى مقر الجمعية، فاجتمعوا في قاعة التنس في المبنى ذاته، ليغلقها الملك في اليوم التالي، فعمت المظاهرات في أنحاء فرنسا، وأصبحت قصور الإقطاعيين هدفاً للمتظاهرين، بعد أن اندلعت أعمال الشغب.
بعد توسّع رقعة أعمال الشغب، أصدرت الجمعية الوطنية "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" ـ الذي أصبح ملهماً لكل الدساتير الحديثة، واستندت إليه الأمم المتحدة لوضع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ـ نص على الحق في الحرية والأمن والمساواة بين الجميع أمام القانون وتكافؤ الفرص، كما نص على مبدأ الحكومة التمثيلية والسيادة الشعبية؛ أي أن السيادة للشعب وليست للملك.
كما عملت الجمعية على إلغاء الامتيازات الإقطاعية، وأقرّت توزيع الضرائب بين أفراد الشعب بالتساوي دون تمييز طبقي، وأمّمت أموال الكنيسة وأراضيها باعتبارها ملكًا للشعب.
الجمعية أصدرت أيضاً عام 1791 دستوراً جديداً يضمن الحريات العامة ويوزع السلطات توزيعاً عادلاً، ويؤكد على مبدأ فصل السلطات، والإبقاء على النظام الملكي مع تحديد سلطات لويس السادس عشر، ثم حلّت الجمعية نفسها وأعلنت إجراء انتخابات جديدة.
لكن بعد أقل من عام دبّت الفوضى في صفوف الجمعية، وبدأ صراع بين جناح داعم للملكية الدستورية وجناح رافض للنظام الملكي، وانتهى الأمر باقتحام القصر الملكي واعتقال الملك وأسرته، ومن ثم إلغاء النظام الملكي وإعلان الجمهورية، وخلال بضعة أشهر تلت هذه الحادثة، تمت محاكمة لويس السادس عشر، وإدانته بتهمة التأمر ضد الحرية والسلامة والعامة وحكم عليه بالإعدام.
أعدم الملك السابق لويس السادس عشر ـ والذي دعي بعد خلعه بالمواطن "لويس كابيت" ـ بالمقصلة في يناير 1793 في ساحة الثورة (ساحة الكونكورد حالياً)، قبل أن تعدم زوجته ماري أنطوانيت في اكتوبر من العام ذاته.
بيد أن إعدام ماري انطوانيت كان أكثر دراماتيكية، إذ اقتيدت بعربة مكشوفة دارت بها في شوارع باريس، والناس يرمونها بالأوساخ، ثم قصوا شعرها الطويل قبل أن يضعوها في المقصلة التي فصلت رأسها عن جسدها.
وقد لا تبدو الطريقة التي تم التعامل فيها مع ماري أنطوانيت مستغربة حين نعرف دورها في إشعال الثورة، إذ كان لها دور كبير في تأجيج غضب الناس، فالملكة كانت تتمتع بشخصية قوية، تفتخر بقوميتها الألمانية وبأسرتها النمساوية الملكية، ولم يكن لها هم سوى الترف والسلطة، وكانت هي الحاكمة الفعلية للدولة، لأن لويس السادس عشر كان ضعيف الشخصية ـ كما أسلفنا ـ ما فتح المجال لها لأن تكون صاحبة الكلمة العليا في فرنسا.
ورغم قصص كثيرة تداولها الناس حولها، وثبت عدم صحة بعضها، كان سبب اختلاق هذه القصص أن الفرنسيين لم ينسوا أن ماري أنطوانيت ليست فرنسية الأصل، وإنما نمساوية تدخلت في شؤونهم، إلا أن تبذيرها لثروات البلاد حين كان الشعب يتضوّر جوعاً، كان أمراً حقيقياً وساهم بشكل كبير في قيام الثورة.
فالملكة الصغيرة لم ترق لها الحياة الرسمية في البلاط، لذلك كانت تعمل على الترويح عن نفسها بإقامة الحفلات الفاخرة والتمثيليات المسرحية وسباقات الخيول والمقامرة، وتُسرف في إغداق الأموال على محاسيب البلاط، كما كانت تعزل الوزراء الذين كانوا يهددون حياة البذخ التي كانت تعيشها عبر محاولاتهم لخفض نفقات القصر.