04-07-2020 01:02 PM
بقلم : د.اسماعيل احمد ملحم
في إطار تجويد الخدمات و توفير النفقات و احداث رشاقة للمؤسسات و الدوائر الحكومية فقد شرعت الحكومة الأردنية مؤخرا في عملية إعادة هيكلة او دمج عدد من المؤسسات و الدوائر ذات الأهداف المتشابهة ، و هو إجراء صحي لوقف تمدد الترهل الإداري و تضخم الجهاز الوظيفي، و لعل هذا الجهد الكبير يحتاج إلى مهاراتٍ عالية في الهيكلة ، و خبرات ذات مستوى رفيع في رسم الاستراتيجيات و تطوير الأداء المؤسسي ، و من الحكمة توفرها جميعاً بالتزامن مع اية عملية دمج او اعادة هيكلة .
و ما يسترعي الانتباه في هذه الأيام الحديث الساخن على مواقع التواصل الاجتماعي عن جدوى احتمال دمج ( دائرة الاثار العامة ) مع ( وزارة السياحة و الاثار ) ، حيث اعتاد الناس منذ ٩٠ عاما على اسم دائرة الاثار العامة كحارس امين و مكتشف نشيط لآثار المملكة الأردنية الهاشمية ، و هذه الدائرة رغم إمكانياتها المتواضعة إلا أنها حافظت على آثار الوطن و أدت الأعمال التي تقوم بها من تنقيب و ترميم و مسوحات بالشراكة مع البعثات الأثرية الأجنبية الصديقة لاكتشاف و اظهار مخزون ضخم من تراث الاردن عبر العصور، بحيث أضحت المواقع الأثرية السياحية نقطة جذب للسياحة العالمية كالبتراء و جرش و المغطس و القصور الأموية و ام قيس و مادبا و غيرها.
كما نالت عدد من المواقع الأثرية الاردنية صفة تراث عالمي ، و من خلال الاثار استطاع الاردن أن يبني شبكة علاقات دولية في مجال البحث الأثري و التاريخ الحضاري العالمي ، و أصبح المؤتمر الدولي لتاريخ و آثار الأردن الذي يعقد كل ثلاث سنوات من أهم المؤتمرات العالمية و أكثرها حضورا من قبل علماء الاثار ، لما لآثار الاردن من أهمية عالمية .
و بسبب محدودية الإمكانيات المادية و الموارد البشرية لدائرة الاثار العامة و هي المكلفة قانونياً بإدارة آثار الدولة وفقاً لقانون الآثار الاردني ازدادت الأعباء الموكولة إليها حديثاً ، ففي عُهدتها أكثر من مائة الف موقع أثري تنتشر على رقعة جغرافية واسعة على كامل تراب المملكة ، و هي تحتاج الى استكشاف و توثيق و ترميم و حراسة ، و التوسع في عملية الاستملاك لقطع الاراضي ذات الاهمية و الواقع بها اثار ، مما راكم عليها مستحقات مالية كبيرة كتعويض عن اثمان قطع الاراضي و التي يحتاج تسديدها لسنوات طويلة و امكانيات مالية تفوق ما هو مرصود من موازنات لهذا الملف .
كما شكلت المتاحف و مستودعات القطع الأثرية عبئا آخر لا يقل أهمية عن ضرورات توفر الموارد المالية ، فهذه القطع الأثرية تحتاج إلى صيانة و توثيق و مخازن آمنة ، و طرق و اساليب عرض متطورة باعتبارها وثائق تاريخية مهمة جدا . كما ان تعرض عديد من المواقع الأثرية للحفر غير الشرعي او الهدم او توسع التجارة غير الشرعية للآثار كلها تشكل تحديات جسام أمام هذه الدائرة العريقة محدودة الإمكانيات.
كما أن نقص الموارد البشرية الوظيفية المؤهلة خاصة في الأعمال الفنية المساندة للعمل الأثري من صيانة و ترميم و مساحة و رسم و نقص المتخصصين في دراسة العظام و النقوش و المسكوكات و غيرها فرضت صعوبات في التعاطي مع واقع العمل الموكول للدائرة إلى جانب تراجع حجم الدعم و المنح الدولية في التعاطي مع القطاع الأثري.
كما أن انفصال عدد من المواقع الأثرية الرئيسية في المملكة عن صلاحية دائرة الاثار العامة بحكم أنها أصبحت محميات او هيئات مستقلة كما في البتراء و المغطس قلّص من صلاحية الدائرة على مواقعها الأثرية.
من ناحية أخرى فإن التداخل في إدارة المواقع الأثرية السياحية ما بين الوزارة و الدائرة كان غالبا قضية جدلية و نقدية في العمل و أدى غالبا إلى بطء تطوير هذه المواقع احيانا او إلى ازدواجية القرار احياناً أخرى، مما يطرح التساؤل عن مدى إمكانية التعاطي مع جهة مسؤولة واحدة لتجويد تقديم الخدمة أو تسريع الإنجاز.
و أمام هذه التحديات الكثيرة التي تواجه الدائرة تبرز في الأفق احتمالات شمولها بالدمج مع الوزارة ضمن التوجهات العامة في التعامل مع الدوائر الحكومية ذات الأهداف المتشابهة ، و هي بدون شك ستكون مرحلة فاصلة في تاريخ هذه الدائرة العريقة ان تم المضي بها ، و في الوقت الذي يرى فيه البعض في هذه الخطوة إجراء سلبي و إنهاء لدور مهم لدائرة مضى على عمرها أكثر من تسعين عاما إلا أن قراءة متأنية للمشهد يمكن أن تعطينا الوجه الإيجابي لخطوة كهذه ، و يمكن أن تصب في مصلحة قطاع الاثار أن تم التعامل معها بحكمة و روية و الأخذ بنصائح و خبرات الآثاريين في هذا المجال لا سيما إذا ما كان الدمج المحتمل يعني تطوير الدائرة إلى وزارة لتُعنى بقطاع الاثار إلى جانب العناية بالقطاع السياحي و الدفع بالامكانيات المالية و الفنية و الإدارية الكبيرة للوزارة لصالح أهداف الدائرة و حل قضاياها العديدة مع الحفاظ على قوة و زخم قانون الاثار الاردني و تطويره و استدامة الأثر و قيمته الحضارية للأجيال، فمسمى دائرة الاثار العامة يفترض انه في حال الدمج سيكبر ليصبح ( وزارة السياحة و الاثار ) و مسمى المدير العام للاثار يفترض انه سيصبح( الامين العام للوزارة لشؤون الاثار ) و اقسام الدائرة الأساسية و هي : ( التنقيبات و المسوحات ) و ( الترميم و الصيانة ) و ( المتاحف ) ستصبح مديريات أساسية في الوزارة مرتبطة بالوزير من خلال الأمين العام لشؤون الاثار مما سيلغي - على الاغلب - كثير من التعقيدات الإدارية و يقلل من زمن الاتصال مع صاحب القرار تحت مظلة واحدة و هي وزارة السياحة و الاثار ، كما سيصبح الامين العام المفترض للوزارة لشؤون الاثار مشارك أساسي في صياغة القرار الذي يهم قطاع الاثار ، مع ما تتطلبه عمليات الدمج المحتملة من ضرورة تحسين ظروف الموظفين المالية و الإدارية و تساويهم بالحقوق .
ان نقاط التلاقي الايجابية و التشاركية ما بين دائرة الاثار العامة و وزارة السياحة و الاثار كثيرة و هي تشمل تعظيم المنتج الأثري السياحي و الحفاظ عليه و استدامته للأجيال القادمة و الاستثمار المنهجي لهذا المنتج بما يحفظ له قيمته و اعتباره و بما يفيد في تنمية المجتمعات المحلية و رفد الاقتصاد الوطني .
ان من الطبيعي أن مثل هذا الإجراء المحتمل بالدمج سيولد النقد أو الاستغراب او حتى المعارضة لدى البعض لمسألة تغيير تقليد اعتدنا عليه طويلا ، و لكن من المناسب أن ندرك أن عديدا من دول العالم لديها وزارات تعنى بقطاع الاثار و السياحة إلى جانب بعضهما البعض و يمكن أن نستفيد من تجاربها بهذا الشأن، كما ان وجود قطاع الاثار مع وزارة ذات إمكانيات كبيرة سيساعد دائرة محدودة الموارد و الإمكانيات في مواجهة تحديات كبيرة جدا تزداد اعباؤها سنة بعد أخرى و تؤثر سلبيا على عطائها و قدرتها على الإنجاز في ضوء تراجع المساعدات و المنح الدولية . كما سيمنح هذا الدمج المحتمل قدرةً للوزارة للتعامل مع ملفات الاثار و التراث العمراني بجهاز موحد ذو خبرة للصيانة و الترميم و جهاز موحد للبحث العلمي و الدراسات و التوثيق .
مجمل القول أن قطاع الاثار ركن أساسي في رسم الهوية الوطنية و موضع اهتمام الدولة الأردنية و قيادتها الرشيدة ، و يمثل رافدا للاقتصاد الوطني لا غنى عنه من خلال السياحة الأثرية مع كل ما تحمله من قيم إنسانية و حضارية و دينية لذا لا بد من إعطاء هذا القطاع الاهتمام الذي يستحقه و المحافظة على المكتسبات التي حققها عبر تاريخ المملكة الأردنية الهاشمية، و أن المؤسسة التي تدير هذا القطاع سواء كانت دائرة أو وزارة عليها مسؤوليات جسيمة و أمانة كبيرة للأجيال، لذلك لا بد من التعاطي مع هذا الملف بكثير من العناية و الدفع بروح العصرية و التطوير له ، و أن تكون عملية الدمج او اعادة الهيكلة المحتملة في حال إقرارها عملية صحية مدروسة ترفع من شأن هذا القطاع الحيوي و قيمته العلمية و الحضارية و تحسن ظروف العاملين به بما يفيد الوطن و يحفظ تراثه ، أما في حال الإبقاء على الوضع على ما هو عليه فلا بد من دعم هذه الدائرة المهمة و الأخذ بيدها لتحقيق أهدافها الكبيرة .