30-07-2020 08:57 AM
بقلم : د. نواف عواد بني عطية
تعتبر الجلوة عقوبة جماعية على أشخاص غير مسؤولين عن أي جريمة، وتشكل عقاباً تعسفياً ، فهي عقوبة جماعية لذنب فردي ، قائمة على مبدأ التهجير القصري بحجة واهنة وهي منع " فورة الدم " ، وهذا يشكل غياب لدور الدولة والقانون ويسود الحكم للأفراد ، وتختفي أدوات الدولة ، ولما كانت الجلوة تخالف دستور الأردن والتزاماته الحقوقية بل وتشكل اعتداءً صارخًا على حقوق الأفراد التي كفلها الدستور والمواثيق الدولية ، تعالت الأصوات في ضرورة إلغاءها رسميا من النظام القانوني .
بعد نشوء إمارة شرق الأردن، وفي عام 1924 أصبحت هذه الأعراف والممارسات العشائرية التي كانت سائدة في المنطقة جزءاً من القانون الأردني ومنها الجلوة العشائرية ، ليتم بعد ذلك تعديل بعض موادها في القانون العشائري للعام 1936 ، بقي هذا الأمر حتى عام 1976 عندما ألغي "قانون محاكم العشائر" . في عام 1987 اجتمع شيوخ العشائر وبعض أفراد الأجهزة الحكومية والأمنية لبحث موضوع العادات العشائرية المتبعة وبلورتها لتحافظ على المفاهيم الاجتماعية السليمة التي وضعت من أجلها، وللحد من السلبيات التي دخلت عليها ولمواكبة تطورات الحياة، وخرجوا بوثيقة الـ 1987 التي كتب عليها المغفور له الملك الحسين بن طلال “جهدٌ مبارك وخطوة إيجابية بعون الله” لتصبح منذ تلك اللحظة هي المرجعية العشائرية القانونية السارية حتى هذه اللحظة.
في شهر آب عام2016، أقرت اللجنة القانونية الوزارية الأردنية تعديلات على "قانون منع الجرائم" لإضفاء الشرعية على الجلوة، وجاء في مسودة مشروع قانون منع الجرائم الذي اقر من قبل اللجنة القانونية الوزارية على الجاني وابنائه ووالده وان لا تزيد مدة الجلوة عن سنة الا للضرورة وقابلة للتجديد بموافقة الحاكم الاداري المختص بناء على توصية المجلس الامني للمحافظة او اللواء وان تكون من لواء الى لواء داخل المحافظة ( المادة 16/ ب ) ، ولكن لم تُقَر التعديلات المقترحة . في عام 2019 أعلن وزير الداخلية الأردني أن السلطات ستشكل لجنة خبراء في القانون العشائري والشرعي لوضع "ميثاق شرف وطني" من شأنه أن يحد من تطبيق بعض العادات المحلية، ولا سيما الجلوة ، ولكن للأسف بقيت هذه الأمور على شاكلتها الأولى !!
بقيت هذه الأمور على حالها حتى جاء تصريح دولة رئيس الوزراء عمر الرزاز يوم أمس بالقول " ... "إنّ الجلوة العشائريّة ما زالت تؤثر سلبًا على حياة الكثير من الأسر والمجتمع، ومن الواجب بحث حلول عمليّة عادلة وقابلة للتطبيق، خصوصًا ونحن على مشارف مئويّة الدولة الأردنيّة" .
وهنا نورد بعضًا من الآثار السلبية للجلوة والتي تتمثل بما يلي :
- تشكل الجلوة اعتداء على مبادىء الدستور وحقوق الأفراد حيث تنص (المادة 9/2 ) من الدستور الأردني على أنه، "لا يجوز أن يحظر على أردني الإقامة في جهة ما أو يمنع من التنقل ولا أن يلزم بالإقامة في مكان معين إلا في الأحوال المبينة في القانون" .
- كما تعتبر الجلوة انتهاك صريح للحقوق الإنسان التي نصت عليها الاتفاقيات الدولية، ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حيث تنص المادة (13) "على انه لكل فرد حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل حدود كل دولة، ويحق لكل فرد أن يغادر أية بلد بما في ذلك بلده كما يحق له العودة إليه"، وهذا نقيض واقع تطبيق (الجلوة). كما تعتبر مخالفة لإعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام، والذي يتضمن في المادة (12) "أن لكل إنسان الحق في إطار الشريعة في حرية التنقل، واختيار محل إقامته داخل بلاده أو خارجها، وله إذا اضطهد حق اللجوء إلى بلد آخر، وعلى البلد الذي لجأ إليه أن يجيره حتى يبلغه مأمنه ما لم يكن سبب اللجوء اقتراف جريمة في نظر الشريعة " .
- تعتبر شكل من أشكال التهجير القسري ، وهي شكل من أشكال العقوبات الجماعية ، كما أن لها آثار مباشرة على جملة من الحقوق السياسية والاجتماعية والمدنية والاقتصادية للمواطنين، كونها تشكل انتهاكاً لتلك الحقوق، حيث أنها تستند إلى العادات والتقاليد والأعراف القديمة، والتي لا تتوافق مع روح العصر .
- موضوعها غير إنساني وليس قانوني ويعتبر عقاباً جماعياً لأقارب الجاني على ذنب لم يرتكبوه ، وانتهاكاً صارخاً للحق في التمتع ببيئة أمنة ، كما أنها صارت تشكل عبئاً على المجتمع لما ينجم عنها من آثار اقتصادية اجتماعية ونفسية سلبية تطال أقرباء الجاني كافة في جرائم ،
- ورغم عدم وجود سند قانوني للجلوة ، إلا إن الأجهزة الرسمية لا تزال ترعى بشكل أو بآخر تطبيق إجراءات التقاضي العشائري ، حيث تنفذ بقوة القانون وعبر إما المحافظين أو مسؤولي الأجهزة الأمنية .
- كما أن الجلوة العشائرية تجاوزت مفهوم الانتهاك الحقوقي، ووصلت إلى مفهوم المعاناة الحقيقية ، حيث أن إجلاء عائلات قصراً، والتضييق على حريتهم في التنقل ، بما يتعارض مع حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية .
وختامًا ، فإن الجلوة العشائرية ليس لها أساس في العرف والقانون وهي مخالفة للدستور وسيادة القانون وقانون العقوبات ، ولماذا الزمت الدولة نفسها لتنفيذ احكام الجلوة العشائرية بدلًا من فرض القانون ومحاربة هذه الآفة من خطر تمددها ومعاقبة كل من دعى لتنفيذها من الأفراد ، وأكبر دليل على هشاشتها وعدم قيامها على أساس قانوني ، أن الجلوة لا يمكن ان تلغى بالقانون ولكن تلغى من خلال أجماع عشائري ، وهنا نعود لحكم الفرد !!