04-08-2020 11:59 AM
بقلم : أ.د رشيد عبّاس
حين تجلس أمام احدى القنوات الفضائية العربية لمتابعة برنامج يتطلب استضافة بعض الضيوف لإلقاء الضوء على موضوع معين ستجد ان عملية (هندسة الاستضافة) واضحة ولا تحتاج منك الى ذكاء خارق, وان هذا الهندسة تكون أكثر وضوحا إذا ما كانت معدة البرنامج من الجنس الناعم, والملفت للنظر ان عملية (هندسة الاستضافة) هذه ستمنحك فرصة كبيرة في معرفة ماذا سيكون رأي الضيف مسبقا وقبل ان يتفوه بكلمة واحدة, مع ان الأصل في الإعلام الحر ان يبنى على استمطار رأي الضيف حتى لو رأيه مخالفا لسياسة القناة والقائمين عليها, والسؤال هنا اليس من الغباء المطبق, او حتى من الاستخفاف بعقول المشاهدين اللجوء الى هذا الاسلوب عند استضافة احد الضيوف لتغطية حدث معين؟
القصة بدأت عند متابعتي خبر يتعلق (بالشأن الليبي) فقد تابعتُ من فترة هذا الخبر عبر ثلاث قنوات عربية للوقوف على حيثيات الخبر, وقد لاحظتُ ومن خلال استضافة معدات البرامج لبعض الضيوف في هذه القنوات كيف تجلّت عندهم ابشع صور المحاباة لهذه القنوات, والشيء المؤسف ان جميع هؤلاء الضيوف في القنوات الفضائية العربية والمنتشرة على امتداد خارطة العالم العربي كانوا خاضعين لما يسمى بـ(هندسة الاستضافة), حيث تم هندسة من هم هؤلاء الضيوف المدعوين في هذه القنوات, وهندسة ماذا سيقول بالضبط كل واحد منهم لينسجم ذلك مع وجهة نظر القناة وسياستها, ناهيك عن ان معدات البرامج كانتا تضعا لهم المسطرة والمنقلة والفرجار من هنا وهناك لكي ترسم لهم مسار الحديث المطلوب, ولكي لا يحيدوا عن ما طلب منهم قوله.
في المقابل وعلى نفس الخبر تابعتُ ذلك مباشرة على قناة فضائية أجنبية, حيث انني وجدتُ الفرق الكبير والواسع في الطرح, فقد طرح الضيف وجهة نظره حول نفس الخبر(الشأن الليبي) بكل موضوعية وشفافية دون الخضوع او المحاباة لوجهة نظر القناة وسياستها, او لوجهة نظر معد البرنامج والذي كان شاب في مقتبل العمر, ذلك الشاب الذي طبعه الإعلام, ولم يطبع هو الإعلام كما هو الحال في قنواتنا العربية,..هذه القناة الأجنبية لم تستخدم (هندسة الاستضافة), ولم يستخدم معد البرنامج المسطرة والمنقلة والفرجار لكي يرسم للضيف مسار الحديث المطلوب, او لكي لا يحيد الضيف عن ما طلب منه قوله.
اعتقد جازما ان هروب المشاهدين والمستمعين من حول القنوات الفضائية العربية مبرر, وان التفاف المشاهدين والمستمعين حول القنوات الفضائية الأجنبية مبرر أيضا, وسيأتي والحال هكذا اليوم الذي ستُقفل فيه قنوات(هندسة الاستضافة) أبوابها كونه إعلام خالٍ من الدسم, وفي نفس الوقت ستفتح نوافذ قنوات الإعلام الحر المنفتح غير المسيّس كونه إعلام كامل الدسم, نعم كيف لنا ان نتابع إعلام مبرمج خالٍ من الدسم؟..إعلام فيه الأسئلة والأجوبة منسوخة ومطبوعة مسبقا, وأكثر من ذلك قد نجد فيه الضيف يقوم بتغيير الحقائق ارضاءً لسياسة القناة والعاملين فيها.
الفكرة تقوم على مبدأ الاستئجار, فكما جاء على لسان إحدى ابنتي شعيب عليه السلام عندما اقترحت على أبيها أن يتخذ سيدنا موسى عليه السلام مسؤولاَ بالأجر بعد ان سقى لهما موسى في قوله تعالى: (قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) حيث ان هذا الامر لا ينطبق فقط على حادثة الماء وإنما ينطبق ايضا على كل موقف في حياتنا اليومية فيه أمانة القول وأمانة الفعل,..وينطبق ايضا على من تستأجرهم بعض القنوات الفضائية العربية لأبداء رأيه او مناقشة او تحليل خبر او نبأ او حدث ما.
الكثير منا اليوم اقول الكثير وبكل صراحة لا يصلح أطلاقا (للاستئجار) فقد فقدنا جميع القيم المرتبطة بالقوة, وفقدنا أيضا جميع القيم المرتبطة بالأمانة, فنحن غير أمناء على قول كلمة الحق, وغير أمناء على طرق كسب المال, وغير أمناء على رد حقوق الآخرين, وغير أمناء على تقديم النصح لولاة أمرنا, وغير أمناء على صون وحفظ أوطاننا, وغير أمناء على إنجازات بلادنا..نحن للأسف الشديد دعاة فتن وتفريق وتمزيق وتشتيت للناس, والكثير منا يراوغ من اجل القفز على السلطة او المال او المرأة, وهذه المراوغات والبدع والثعلبة باتت مكشوفة حتى لأطفال الروضة.
الذي سقى لابنتي شعيب عليه السلام لم يكن ينتمي أطلاقا الى أية جهة من الجهات المراوغة, الذي سقى لابنتي شعيب عليه السلام كان (قوياً) وما تحمله القوة من استقلال, وكان (اميناً) وما تحمله الأمانة من استقلال, فمقياس الاستئجار لكل شأن من شؤون حياتنا اليومية يقع على تدريجين, التدريج الاول القوة, والتدريج الثاني الأمانة, ويمكن لنا ان نتصور في عالمنا العربي ان يقوم كل واحد منا بوضع لنفسه درجة على كل تدريج منهما, ويبقى السؤال الذيلي ما هي الدرجة التي سنحصل عليها على تلك التدريجين؟
اعتقد جازما ان غالبيتنا سيحتاج الى أكثر من (دورة تكميلية) في تصليح ميزان القوة والأمانة وما تحملهما من ابعاد حياتية عندنا.
اليس كذلك يا اصحاب البدع المستأجرة..