17-10-2020 11:10 AM
بقلم : الدكتور جمال المصري
“إن علاج استعصاء واخفاق السياسات الاقتصادية وترددها لن يكون شافيا باستبدال خطة ثبت فشلها بأخرى جديدة طالما المخططون هم ذاتهم، ولا باستحداث هيئة لن يكون لها السلطة والولاية والخبرة التي تتوفر لمؤسسات القرار الاقتصادي وسياساتها الراسخة.”
في مثل هذا اليوم من العام الفائت كتبنا منشورا قصيرا، اقتبسنا نصه أعلاه، وذلك تعليقا على اعلان الحكومة عن توجهها لإنشاء هيئة مستقلة لتنشيط الاقتصاد؛ وهو إنجاز لم يكتمل ولم يرَّ النور؛ شأنه شأن كثير من المشاريع التي بقيت في سلة الوعود التي لم تتجاوز أكثر من شفاه وألسنة مطلقيها. وقد جاء الإعلان عموميا دون الخوض في أي تفاصيل من حيث بيان السياسات الاقتصادية التي ستفوض لهذه الهيئة باتخاذها وما هو مصير ودور مؤسسات القرار الاقتصادي التقليدية ومدي تقاطع مسؤوليات كل جهة بما فيها الهيئة الموعودة ومدى اتساقها، وهل هي بديلة عن وزارة للاقتصاد التي يمكن أن تقوم بهذا الدور كما في كثير دول العالم؟!، ولم يوضح الإعلان في حينه المقصود بوصف الهيئة بالمستقلة؛ فعن ماذا هي مستقلة.؟
وفي ذات الإعلان تم الحديث عن عمل جار لأعداد خطة تنموية للنهوض بالاقتصاد الوطني، فهل كان هذا اعتراف من الحكومة وقتها بإخفاق خطة "النهضة" ووضعها على الرف إلى جانب الخطط السابقة، كرؤية الأردن 2025 وبرنامجها التنفيذي وخطة التحفيز الاقتصادي لاحقا التي تم تجاهلها من قبل حكومة الرزاز ووصفها من قبل نائب رئيس الحكومة السابقة بعدم صلاحيتها وعدم قابلتها للتنفيذ لارتفاع حجم التمويل المقدر لها وأنها كانت مغرقة بالطموح.
وفي ذات جلسة الحديث تلك، لم يتم اغفال ترديد الجمل الجاهزة والمناشدة بوجوب تشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي، متناسين أن جذب الاستثمار لا يتم بالمناشدة والآمال؛ بل بتخفيض تكاليف الاستثمار المرهقة والمنفرة لأي استثمار في ذاك اليوم واليوم وغدا.
إن أسلوب علاج استعصاء واخفاق السياسات الاقتصادية وترددها الذي شهده اقتصادنا في العام الفائت والذي ازداد تعمقا وانتكاسا خلال الشهور الثمانية الأخيرة في إطار مواجهة تبعات جائحة كورونا، كشف بشكل جلي عن أن العلاجات لم تكن مناسبة ولا شافية، وأنها تشبه كل العلاجات التي لم تثبت فعاليتها حتى اللحظة لعلاج فيروس كورونا، وأن الأمر لم يعد يتعلق باستبدال خطط ثبت فشلها بأخرى جديدة طالما المخططون هم ذاتهم، ولا باستحداث مجلس سياسات استشاري كالذي تم انشاؤه خلال أزمة كورونا والذي لم نلمس أي انجاز أو فاعلية له ولم نسمع عن أي نتائج لاجتماعاته او مداولاته ولا عن أي خطة اقتصادية للتعامل مع تأثيرات الأزمة الاقتصادية والتراجع الاقتصادي تكفل التعافي الذي تلفه درجة عالية من عدم التأكد والغموض وعدم وضوح الرؤية وتحدد منارة نستهدي بها لتبديد ظلمة الطريق الذي نحن سائرون فيه والمصير الذي نحن ذاهبون إليه.
المطلوب دون إبطاء من الحكومة الوليدة، رغم أن المخططين هم ذاتهم، أن تعلن سريعا عن برنامج وطني شامل يصاغ من عقول أردنية قد يكون قد غيب أصحابها لسبب أو أخر، وعن خطة اقتصادية واضحة وشفافة تنبئ بالتغيير للتعامل مع المنعطف الاقتصادي وتحدياته الصعبة والمخاطر الماثلة للعيان والمخاطر الاضافية التي تتوالد يوما بعد الاخر، ولا يجوز اختزال التحديات الاقتصادية بتحدي أعداد الموازنة العامة كما عبر عنه البعض خلال الأيام الماضية وتناسي التحديات الحقيقية والتردد في المباشرة بالإصلاحات لكل مفردات الاقتصاد والاستثمار وقطاع الطاقة والتي لا يمكن أن تتم دون أن يسبقها إصلاح إداري مستحق تأخر طويلا؛ فلم نعد نملك ترف الوقت ولا عذر لمزيد من إضاعة وهدر الفرص التي لن تبقى سانحة طويلا.
لا يعقل أن نبقى ننتظر أن يتعافى اقتصادنا لوحده من خلال الادعاء بمناعة اقتصادنا ضد التحديات والصعوبات دون اتخاذ أي سياسات ذات مفعول تستطيع رفع معنويات المريض وتبعث فيه الأمل بالشفاء، خصوصا لعدم امتلاك مسؤولي الملف الاقتصادي لأي برنامج لإنقاذ الاقتصاد المتهاوي حتى اليوم. فلا تكفي تلك المناعة المدعاة ولا مناشدة الناس والفاعليين الاقتصاديين للتسلح بالثقة والتفاؤل وتقدييمهاا كوصفة لتحسين الاقتصاد وتعافيه حسب ما يعتقد المنادون بنظرية التوقعات الرشيدة والشفافية من الليبراليين الحالمين، رغم علمهم وإدراكهم الأكيد بأن هذه الأفكار المحلقة بالنظرية لا تعمل في الأوقات السيئة والأزمات على الأقل، وان الثقة والتفاؤل في بلدنا كما في كل بلداننا لا يأتيان بالمناشدة لكن بإجراءات حقيقية وقوية تصدقها النتائج، وهي التي غابت حتى اليوم. هذه الافكار الحالمة قد لا تسمعها فقط في حلقات نقاش بعض المدارس الاقتصادية العالمية ومن خلال كتابات منظريها، لكن ربما من خلال إعادة الاستماع لحوارية منتدى شومان "مناعة الاقتصاد: التحديات والسياسات" قبل شهر من الأن في إحدى مسائيات عمان، مع تمنياتنا بأن يعقبها فجر جديد مع الحكومة الجديدة.
ولا يعقل أن نبقى بانتظار تعافي العالم، كي نتعافى برفقته؛ فيكفي ان نستمع إلى رئيسة صندوق النقد الدولي، كريستينا جورجيفا، بعيدا عن ضجيج المتفائلين، وهي تقر بأن الاقتصاد العالمي يعود من أعماق الأزمة ببطء شديد ويواجه ما أُسمته "صعود الجبل الطويل" وأنه صعوده بتم بشكل صعب وغير منتظم وغير مؤكد، وأنه أي الاقتصاد العالمي يبقى عرضة للنكسات. فقد نترك بعد هذا الحديث مساحات التردد فنبادر بالعمل وإنقاذ اقتصادنا العليل؛ فبهذا نبدأ بالتغيير.