17-10-2020 11:16 AM
بقلم : د. منصور الهزايمة
هل يبدو العالم -اليوم- وكأنه سلم قياده لعلم لا حدود لما قد يصل إليه، لكنه قد يقف عاجزًا عند محكات مفصلية في حياة الناس؟ هل بات الإنسان يشعر اليوم بحجم المرارة مما أحدثه الفيروس العجيب؟ وهل نزعت الحكمة عن هذا العلم، ومن هذا العالم، بحيث لم يعد الانسان قادرًا على حسم الخيارات المتناقضة أو الاختيار بين المتنوعة منها؟ هل العلم وحده هو الذي يستطيع حل مشاكلنا بشكل مطلق، دون إدراك لما قد ينتج عن انفلاته من أقدار ربما تقودنا إلى ما لا نهوى أو نحب؟
لا شك أن العلم ساهم وما زال بشكل لا يمكن تقديره في حل مشاكل الإنسان، بما يفوق مختلف التفاعلات، وشتى الاجتهادات، بحيث كان قادرًا على اجتراح الحلول وإبداع السبل والوسائل التي ساهمت بزيادة الإنتاج، والفتك بالأمراض، وصناعة الرفاهية، ومثال ذلك، فقد كانت هناك تنبؤات بحصول قصور غذائي في آخر عقدين من القرن الماضي، نسبة إلى حقيقة انفجار سكاني عالمي على رقعة كوكب محدودة، لنجد أن العلم يتصدى للمشكلة، فتكون هناك اجتراحات ريادية كخيارات الزراعة الحديثة، والتلاعب بجينات الهندسة الوراثية، ليتوفر الغذاء للناس كافة كل الوقت وبسعر مقبول.
المهم أنه في الوقت الذي يتسيد العلم في العالم، وتتزايد تأثيراته في الحياة، ولا يمكن كبح جماحه، نرى أن حياة الناس تتوه، وكأنها تتجه نحو المجهول، وهنا تبدو الحاجة ماسة للإمساك بضالة الحكمة، ليزن الإنسان القضايا بموازين العدالة، ويضع الأمور في نصابها الصحيح.
إن العلاقة بين الحكمة والعلم قد تبدو في ظاهرها مشدودة بحبل مجدول، وقد يظن البعض أنهما قرينان، لكن هذا غير دقيق، ففي الوقت الذي يسعى فيه العلم لإدراك كنه الشي، فإن الحكمة تسعى للوقوف على محاسن معانيه، فالعلم يصنع السيارة دون أن يلتفت الى مخاطر استخدامها، ويصنع الهاتف دون أن يقدم نصائح الاستخدام، وينتج الدواء لكن لا يقول لنا متى نداوي، ويصنع السلاح ولا يعلمنا متى نحارب، أو يلزمنا بقواعد الحرب، بل إن العلم إن أفلت من عقاله، وأٌطلق عنانه، لربما بدا في هدف مغاير لما ينشده الإنسان، من مثل صناعة أسلحة الدمار، وقد يكون العلم أحد روافد الحكمة، لكنّ الحكمة ليست وليدة العلم، أو رفيقة دربه، لكنها في أبسط تحليل، تحتاج لثلاثة عناصر أساسية هي؛ الذكاء الذي هو منحة ربانية، والمعرفة التي قد تكون كسبا شخصيا بسعي مثابر، أما الإرادة فقد تكون هدية الأمة لأبنائها من النجباء، بقدر رفع سقف الحريات والعيش بكرامة، وتقدير النماذج المتميزة فيها، فقد يكون الإنسان عالما متبحرًا في تخصصه، لكنه لا يمسك بالحكمة، والحكيم قد لا يكون متبحرًا في أي علم، لكنه يسخر ذكاءه ومعرفته في إبراز ما يترتب على الإنسان فعله في التمييز بين المقبول وغير المقبول، وهذه الروافد الثلاث تشد بعضها بعضا وتكتمل الحكمة-دائما- بكمال عناصرها.
لم يعد العاقل بيننا من يميز بين الخير والشر، بل يحتاج أن يميز بين الشرين، وأن يعلم أي الخيرين خير، وهذه تتطلب أن يسخر ذكاءه ومعرفته في التحقق من كنه الأشياء، ومن ثم اختيار أحسنها، لكن الأهم أن يمتلك الإرادة لاختزال المسافة بين ما يفتعل في داخله، وما ينبغي أن يطبق في المجتمع الذي يعيش فيه، وهنا تقتضي الحكمة ذاتها الجمع بين أركانها الثلاث.
بتنا اليوم نسلم لكثير من العادات والتقاليد التي نعي أننا يجب أن نغربلها، ونخضع لكثير من ألوان الاستبداد الديني والاجتماعي والسياسي والمؤسسي المهين، ونستسلم لبريق التقدم التقني المبهر، كل ذلك تدركه عقولنا، وتتلفظ به الستنا، لكن ينقصنا الإرادة الحقيقية للتغيير، ولطالما فشلت كثير من مبادرات التغيير في مجتمعاتنا لتفوق العجز على الإرادة، ولتبقى معرفتنا حول مشاكلنا المزمنة مجرد توصيف ولقلقة لسان.
في عالم اليوم الذي يحفل بالتعقيد، ويسوده اللايقين، وتتشابك فيه المعرفة العلمية مع تناقضات الثقافة، ودون القدرة أو الرغبة في كبح جماح حركة العلم التي تأتي كل يوم بجديد، قد تدخل البشرية في دورة جديدة من الوجود، مما يجعل العالم بأمس الحاجة إلى جيل من الحكماء والمصلحين، بل أن الفلسفة قد تستعيد مجدها القديم، مما قد يُمّكن الإنسان الخروج من حالة عدم اليقين، بحيث يجدول أسئلة العصر، ويحسن الاجابة عليها، ولطالما عبر الإنسان من عصر إلى آخر لغير نقص أو حاجة، بقدر ما كان ذلك لتحسين الحياة أو فهمها أو الإجابة على الأسئلة الكبرى مثل تلك المتعلقة بهويته وكينونته وعلة وجوده ومصيره.
وردت كلمة الحكمة ومشتقاتها في (25) موضعٍ في القرآن الكريم، بما يعني أن عقل الإنسان لا ينالها مهما تقدم في العلم أو البحث، لكنها قد تأتي وحيا أو هبة من الله لمن أراد من عباده المصلحين، وربما يشفي الغليل حول ما قيل فيها ما جاء في كتاب الله العزيز "ومن يؤت الحكمة فقد أُوتي خيرا كثيرا".
الدوحة - قطر