18-10-2020 08:18 AM
بقلم : اخلاص القاضي
رغم التحفظ على استعار حمى شراء المواد الاستهلاكية قبل الحظر الشامل الذي يُفرض احترازيا في زمن جائحة كوفيد-19، قد نفهم أن يصطف الناس بالطوابير لتأمين حصصهم من الخبز والطعام، دون أن نبرر تجاهل بعضهم للتباعد الجسدي، ورميهم الكمامة بعرض اللامبالاة !
ولكن؛ أن يتوافدوا على محال بيع الأراجيل للتزود ب"مونة حرق الأنفاس" من معسل وفحم وبرابيش وغيره، فهذا ما يشي بتحول تعلّق الُكثر بالأراجيل من "تسلية" تكافحها الجهات الصحية المعنية بشتى السبل، لإدمان يحاول البعض تفسيره بالهروب من أجواء التوتر والقلق والملل منذ بدء الجائحة، إلى "تنفيس" ربما لا يدركون أنه يحرق "أخضر" القلب وصحة الرئتين والشرايين، و"يابس" ما تبقي في الجيب، ليتركوا مصائر صحتهم لغيب نتائج صحية لا يُحمد عقباها.
وفيما بلغ الإدمان حده بسائق مركبة يقوم بتدخين الأرجيلة أثناء القيادة على طريق سريع، دون أن يفكر ولو للحظة بسلامته وسلامة الآخرين، يشي مريول المدرسة بعمر وردي لفتاة قصدت محلا للأراجيل، لتبتاع لمزاجها "معسلا على نعنع"، ليس ذلك فحسب، بل وتقدم النصح لسيدة خمسينية حول متعة التحول الى نكهات معسل عصرية تُدخلها في مزاج مختلف، وسط مخالفة البائع الصريحة لقانون منع البيع لمن هم دون سن الثامنة عشرة، وقبول السيدة "الناضجة" بنصيحتها بلا تردد!
قصص وصور و"فيديوهات" تطالعنا يوميا، وتصلنا عبر منصات التواصل الاجتماعي ومجموعات تطبيقات الهواتف الذكية، لتكشف عن مدى تزايد التهافت على تدخين الأرجيلة هذه الأيام المُعتقلة بجائحة، لم يقل الطب كلمته النهائية بلقاح يُنجّي البشرية منها.
وبحسب مؤسسة ومركز الحسين للسرطان فإن التدخين يزيد من احتمالية شدة وحدة كوفيد-19، ويُعرّض الناس لخطورة ربطهم بجهاز التنفس الاصطناعي - الذي تزداد الحاجة له في ظل الجائحة – كما ويحتاجون لإدخالهم غرفة العناية المركزة، لاسيما وأن مرضى القلب والأوعية الدموية والجهاز التنفسي، وجراء تعاطي التبغ، هم الأكثر عرضة للإصابة بأعراض شديدة نتيجة الفيروس.
ومما زاد طين الأرجيلة بلة، إعادة السماح بتدخينها في المقاهي - تحت وطأة شكاوى أصحابها برزق متعثر- بالتوازي وحزمة اشتراطات في التعقيم والتنظيف والتباعد، ولكن السؤال: هل نضمن تقيّد جميع المقاهي بتلك الاشتراطات على وجه الدقه، وبدون أي هفوة قد تتسبب بعدوى الفيروس للمئات؟ ذلك أن بيئة تناول الأرجيلة تقود حكما إلى عدم التباعد الجسدي، ولنزع الكمامة، حيث المجاملة من مدخني الأرجلية ذاتها لمجالسيهم، فلا يستخدمون "المبسم" مثلا، خاصة في ظل استهتار البعض الآخر بحقيقة وجود المرض، ومدى تأثيره وخطورته.
ومن يضمن أيضا التزام تقديم الأرجيلة لمن هم فوق 18 عاما، هل يطلبون مثلا هوية الصبية، أو الفتى ليتم التأكد من حقيقة اعمارهم؟
وهل "يحزروا" عمر من هم فوق ال 65 عاما، فيمتنعون عن خدمتهم؟ وإذا أحضر الزبون أرجيلته الخاصة معه، ما هي ضمانات نظافتها وتعقيمها، أو ضمانات تؤكد أنه ليس مصابا بالفيروس أصلا؟ ومن يضمن التعقيم الصحي لجميع العاملين ومقدمي الخدمة، وعدم التأثير السلبي لمرتادي المقهي من غير المدخنين؟ وهل ستتمكن فرق التفتيش من مراقبة المقاهي على مدار الساعة، وبكل لحظة؟
في الأردن، وعطفا على معلومات "الحسين للسرطان" ما يقترب من مليون مدخن بالغ بحسب إحصاءات 2018، فيما يحصد التدخين 9000 وفاة سنويا، بيد أن عداد كورونا يشير وبحسب وزارة الصحة إلى 330 وفاة حتى مساء السابع عشر من تشرين أول الجاري، لنجد أنفسنا في إسقاط مجازي على واقع التدخين في المملكة، نعيش جائحة لم تنته بعد، بينما يبلّغنا رقم وفياتها، أنها ما زالت تحت السيطرة النسبية بفضل جهود جميع أجهزة الدولة، ولا يقارن بآلاف الأرواح التي تذهب ضحية الإدمان على التدخين، الذي يحتوي تبغه بحسب منظمة الصحة العالمية على أكثر من 7000 مادة كيميائية سامة، يُعد ما ينوف عن 70 منها مُسرطنا.
وهنا لا نفاضل بين هاتين الجائحتين، فكلتاهما مُرّ نأمل أن يمر، بيد أن الفارق يكمن بأننا نملك "مطعوم" التدخين بأيدينا، وهو الإرادة الحاسمة بقرار جريء للتوقف النهائي عن التدخين بجميع أشكاله وعن إيذاء الآخرين بالتدخين السلبي، في حين يترقب العالم بأمل كبير اللقاح الذي من المفترض أن يقضي على جائحة أرّقت مضاجع العالم، وقادته حتى إشعار آخر لمصير ضبابي مفتوح على احتمالات تتنظر كلمة العلم، لتفضي لما هو في صالح البشرية جمعاء.
يخشى بعضهم الحظر الشامل، فيتمونون خبزا وطعاما و"دخانا ومعسلا"، وقد لا يدركون أن الفيروس الذي وصل عداده ل 36053 إصابة - حتى تاريخه - يؤثر خاصة على المدخنين وأصحاب الأمراض المزمنة، وعلى من يستهترون بإجراءات الوقاية والتعقيم، في ظل ما قد تسببه الأرجيلة وفقا لمصادر صحية، من سرطانات الفم والمريء والرئة والمعدة والمثانة والحنجرة والدم والكبد والبنكرياس والكلى والحالبين وعنق الرحم والمثانة والقولون والمستقيم وأمراض اللثة، ناهيك عن انخفاض الوزن عند الولادة، والتهاب الأنف المزمن، والعقم عند الذكور، إضافة لضعف الصحة العقلية.
فهل من الطبيعي في ظل هذه الجائحة التي لا ترحم أن يستمر البعض بفتح شهيته على "جائحة الأراجيل"، وحتى مع اشتراطات إجراءات التعقيم التي لا نعرف كم نسبة الملتزمين بها من أصحاب وروّاد المقاهي؟ فنستيقظ على أنفاس ليست مُثقلة بدخان فحسب، بل معجونة برذاذ كوروني مستجد، في بلد شهد زيادة بمعدلات استهلاك التبغ، ليصبح الأعلى في العالم، وفقا لصحيفة "الغارديان" البريطانية التي نقلت ذلك عن دراسة حكومية أجريت العام المنصرم بالتعاون مع "الصحة العالمية".
صحيح أن التبغ يسهم في 889 مليون دينار في النشاط الاقتصادي، لكن مجموع الخسائر الاقتصادية الناجمة عن تعاطيه، تبلغ مليار و600 مليون دينار، أي بخسارة تقدر ب 726 مليون دينار، وفقا لرئيس مكتب مكافحة السرطان، رئيس قسم الأمراض الصدرية والعناية الحثيثة في مركز الحسين للسرطان الدكتور فراس الهواري، مستندا للدراسة السابقة.
فبين ما قد نسمح لانفسنا بتسميته "جائحة" الأراجيل التي يبدو أنها لا تنتهي، وجائحة كوفيد-19 المنتظرة كلمة الطب المفصلية، ثمة حاجة فعلية للعودة لنمط عيش صحي، بعيدا عن التدخين والملوثات والأمراض والازدحامات والاختلاط والتجمعات، وبعيدا أيضا عن الخسائر الاقتصادية والتلوث البيئي وكلف الرعاية الصحية الباهظة، وذلك بغية الظفر بصحة، هي التاج على رؤوس أصحابها، وهي السعادة التي لا تنتهي، و"المزاج" الذي لا يُعكّر صفوه سحب دخان الموت البطيء.