12-11-2020 01:29 PM
بقلم : اللواء الركن الدكتور محمد خلف الرقاد
عشنا خلال الأيام العشرة الأخيرة مشهدين انتخابيين الأول والأقرب على المستوى الوطني ، والثاني الأبعد قليلاً على المستوى العالمي في الولايات المتحدة الأمريكية ، ورغم الفارق بين المشهدين ، فالأول على مستوى المجلس النيابي الأردني والثاني على مستوى التنافس على رئاسة أكبر دولة في العالم ، لكن لا فرق كبيراً بين المخرجات ، فالتنافس تنافس سواء أكان في أمريكا أم في أصغر دولة في العالم ، فالمناصب تغري ، وحب الوصول يسري في دم الأغلبية من البشر . والناظر المتوازن لايستطيع أن يقول إنهما أنموذجان ديمقراطيان بالمعنى الدقيق ، لأن حرارة التنافس على كرسي الرئاسة كما هو على كراسي مجلس النواب ، تشتد حتى الغليان حينما تصل الأمور إلى عنق الزجاجة ، بل قد تصل إلى حد الهذيان حينما تحتدم المعركة الانتخابية ، وتسرى حمّى التنافس في دماء وأرواح المترشحين .
ورغم سرورنا باجتياز الأردن بنجاح لإنجاز الاستحقاق الدستوري الذي لم يخل من بعض المنغصات ، ومع متابعتنا للمشهد الانتخابي في الولايات المتحدة الأمريكية على شاشات التلفزة المحلية والعالمية، يتسلل الخوف وعدم الطمأنينة إلى قلب من يمعن النظر في بروز بعض المخرجات غير المألوفة التي قد تضرب النهج الديمقراطي في مقتل في الأردن أو في أمريكا أو في أية دولة في العالم ، وهي ليست حكراً على الأردن ، وقد تكون متشابهة مع أعتى الحضارات المتقدمة التي تتبنى الديموقراطية ، وتسعى لنشرها وتدّعي حمايتها ،كما حصل مع الناخبين في الولايات المتحدة في انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة قبل عدة أيام ، حيث خرج الكثير من الناخبين إلى الشوارع وهم مدججين بأسلحتهم الأوتوماتيكية والمتنوعة ، وحتى تكون النظرة متوازنة بين الفارغ والمليء من الكأس ، لا بد من الإشادة بالإنجاز الديمقراطي الناجح في الأردن في انتخاب أعضاء المجلس النيابي التاسع عشر في العاشر من تشرين ثاني 2020 ، وبغض النظر عن رؤية الناس للفائزين الذين نبارك لهم جميعاً وقد أصبحوا نواباً ... فمنهم من يراه الناس أنه ملء لكرسي النيابة ... ومنهم من يراه آخرون أن الكرسي كبير عليه ... ذلك لأن معايير المساواة بين الناس ، والحق القانوني في الترشح ، لابد وأن يفرزان تبايناً واضحاً بين الواصلين إلى قبة البرلمان . ولكن الأسئلة التي قد تقفز إلى الذهن مباشرة في ضوء ما تمت مشاهدته للحراك الانتخابي على الساحتين المحلية والعالمية ( الأمريكية) تتلخص في : هل الانتخابات استحقاق دستوري يقود إلى الشب عن طوق الدستور والقانون من قِبَل من جرت الرياح بما لاتشتهي سفنهم ؟... أم هو فرح ولحظات الانتشاء بالمناصب التي تشي بإفراز ميليشيات مدججة بالأسلحة التي تطلق الأعيرة النارية الحية دون وعي وإدراك ؟ ... أم هو الاستهتار بخطر وباء الكورونا المحدق بالمواطنين ، أم هو الجهل وعدم الإدراك ؟.
ويتراءى للمتابع والمشاهد للفضائيات صوراً تنذر بخطورة وجود أسلحة في أيدي من لايقدرون العواقب ، حيث برز هذا على صعيد المشهد الانتخابي الرئاسي في أمريكا ، وخيم ما يشبهه إلى حد كبير على المشهد الانتخابي على الصعيد الوطني الأردني ، فهذه صور تشير إلى الانتهازية ، وإيثار المصالح الخاصة ، وربما تهمس في أذن أصحاب القرار أن الأمور قد تكون ممنهجة – ولا يعتقد الكاتب ذلك إلا أن الحذر واجب – إنها صور تشوه الديمقراطية وتقتل الإنجاز ، وتبعث قلقاً نحن بغنى عنه ولسنا بحاجة له في ظل ظروفنا الاقتصادية والسياسية والصحية والاجتماعية ، لذا فإن التحدي غير المحمود والمغامرات غير المحسوبة ، والاستعراضات الممجوجة تنبي عن انفصام في الشخصية ، والتحرك العشوائي في كل الاتجاهات يقود إلى تفشي الوباء الخطير الذي ينتشر بين ظهرانينا كانتشار النار في الهشيم ، ووصول حالات الوفيات وأعداد الإصابات إلى أرقام غير مسبوقة عالمياً ، بل أن الأحصائيات تشير إلى أن الأردن قد يكون الأول عالمياً في تفشي الوباء ، في ظل نظامنا الصحي الذي قد لا يتمكن من تغطية المصابين في ظروف معينة قد تتفاقم فيها الإصابات وقد تخرج الأمور فيها عن السيطرة لا سمح الله ، فنموت ونحن نتفرج على بعضنا عاجزين عن تقديم أي شيء .
بالتأكيد كان بالإمكان أن ندلي بصوتنا بسهولة ويسر في ظل اتخاذ الاحتياطات والتدابير وفق البروتوكولات الصحية التي حفظناها عن ظهر قلب ، وفي ظل إجراءات انتخابية سهلت علينا الكثير ، فالناخب لم يكن بحاجة إلى أكثر من خمس دقائق لإنهاء عملية انتخابه والعودة مباشرة إلى بيته ، وبذلك نكون قد تحملنا مسؤولياتنا واستكملنا جهود الدولة في كسر حدة انتشار الوباء ، لكن خروج الكثيرين إلى الشوارع بابتهاج مبالغ فيه اخترق نظامنا الصحي .... واستهتار الكثيرين أدّى إلى تسارع انتشار الوباء / مما ضاعف حالات الإصابات والوفيات.
وهناك صورة غير مرضية ، ولا ترق إلى الطموح ، حيث كانت الأماني تحدثنا بأن تدفع الأحزاب السياسية الأردنية بنخب سياسية حزبية تفرز نواباً أكثر عدداً ، لتفرض نفسها على الساحة السياسية ، وتكون أكثر إسهاماً وفاعلية في تحقيق ديمقراطية أكثر شمولاً ، فمشاركة حوالي 40 حزباً بالترشيح وخوض العملية الانتخابية لم تتمكن من طرح نخب سياسية حزبية كافية تعكس البرامج الحزبية المؤثرة في العملية السياسية والتشريعية في مجلس النواب.
أما النصف المليء من الكأس فهو غني بالصور الإيجابية ومن أروعها تلك الدماء الجديدة التي وصلت حوالي مائة (100) نائب ، حيث يحدونا الأمل بأن يحمل هولاء النواب فكراً نيِّراً قد يخرجون من خلاله بالأردن إلى فضاءات أوسع من السعة والراحة والطمأنينة والأمن والآمان ، اما الصورة الرائعة التي تنفحنا عزما وتمنحنا مزيداً من القوة والمعنويات هي دخول قبة البرلمان ما نسبته حوالي 19% أو تزيد من النخب السياسية الجديدة التي بنت نفسها وشقت طريقها كنخب عسكرية مسؤولة تحولت إلى النخبة السياسية وذات معرفة وخبرة ، والتي ستشكل عصباً جديدا قوياً يشد جسد المجلس النيابي ويحميه من الترهل ، من خلال معارفهم وخبراتهم القيادية العسكرية وعلومهم الاستراتيجية والسياسية ، وإدراكهم للسياسات الهامة التي من شأنها معالجة قضايا الوطن التي تحتاج إلى نهج وفكر عميقين بعيداً عن المصالح والأجندات الخاصة ، والمجاملات على حساب المصالح العليا للدولة الأردنية .
ولا بد من التعريج على الصورة البهية التي أضفتها الإجراءات الأمنية الناعمة والخشنة ، وعززت من نجاح العملية الانتخابية ، ولا يضيرها بعض الهنات التي تعتبر في المستوى المقبول لمثل هكذا خطط أمنية واسعة النطاق ، فعقول البشروقدراتهم وفهمهم لكيفية التنفيذ ليست واحدة .
لكن المتابع المدقق يلحظ على صعيد مخرجات الانتخاب بُعدين مهمين على ساحة العملية الانتخابية هما : رجال الأعمال (البعد المالي) ، وهم الذين تمكنوا من الصرف بسخاء على حملاتهم الانتخابية ، ولا نقول استخدام المالي السياسي ، لأنه ليس لدينا الدليل ، ما لم تسفر نتائج التحقيقات في بعض القضايا المحولة إلى العدالة عن نتائج تثبت ذلك ، أما البعد الثاني فهو البعد العشائري والمناطقي ، وأنا ابن عشيرة ، ومع كل الاحترام للعشيرة كمكون اجتماعي أردني متميز يظل موضع الاحترام والتقدير، إلا أن انتخاب ابن العم والقريب كان هو سيد الموقف ، حتى في إطار القائمة الواحدة ، وقد يكون الناخبون محقين ... لأنه لا يوجد أحد هناك من يدافع عن قضاياهم ويهتم بمطالبهم ويوصل صوتهم إلى مراكز صنع القرار سوى نوابهم من أقاربهم وأبناء مناطقهم الذين أوصلوهم إلى قبة البرلمان في ظل غياب برامج حزبية متماسكة تخدم المواطنين ، هذا إذا لم يغلق النواب الجدد هواتفهم أو يستبدلونها بأرقام جديدة بعد الانتظام تحت القبة ، ولا أبالغ إذا قلت أن هذه هي الحقيقة ، وهذا هو الواقع ، أما الذي استخدم ماله في شراء الذمم والأصوات فلا يحق لأي ناخب أن يطالبه بشيء ، ولا يعتب عليه حتى لو أغلق كل هواتفه لأن الكرة في مرمى من قبض الثمن وغادر.
بقي القول ، إننا نبارك لكل من فاز في هذا السباق ووصل إلى البرلمان ، ونتطلع إلى نواب يملأون أماكنهم ، ويضعون الأردن والمواطن الأردني في حدقات عيونهم ، وفي حنايا ضلوعهم ، فمن بينهم من نعرفهم حقاً وعن قرب ، فهم كفاءات وقدرات فكرية وسياسية واستراتيجية وقانونية وتشريعية وإعلامية وإدارية ووطنية، نتمنى لهم التوفيق في مجلس جديد يضع خدمة الوطن والمواطن نصب عينيه .