28-11-2020 02:38 PM
بقلم : د. فيصل الغويين
1- ولد وصفي(مصطفى وهبي) التل عام 1920 في مدينة (عربكير) شمالي العراق، وكان والده قد غادر اربد بغرض الدراسة في استانبول، لكنّه استقر عند عمه علي نيازي الذي كان يشغل وظيفة قائم مقام في شمال العراق، وهناك تعرف على شقيقة زوجة عمه منيفة بابان وتزوجها، ثم عاد مصطفى إلى اربد، وكانت زوجته حاملا بطفلها الأول وصفي الذي عاش أول خمس سنوات من عمره في المجتمع الكردي. وقد عكست نشأته في بيئة كردية نفسها على ملامح شخصيته التي اتسمت بشدة البأس، والشجاعة، وعمق التفكير، والحزم والاصرار، ووضوح الرأي، والبساطة وهي سمات فرضت نفسها على شخصيته في كل الأدوار والمواقع التي شغلها، والتي أهلته للعب أدوار قيادية عسكرية ومدنية استثنائية.
2- حمل منذ كان طالبا في في مدرسة اربد والسلط الثانوية، هموم وطنه وأمته، وتعرض مع مجموعة من زملائه في مدرسة السلط للمراقبة الأمنية، بعد خروجهم في مظاهرات تهتف ضد الوجود البريطاني في الأردن وفلسطين، وضد وجود فرنسا في سوريا ولبنان، وبعد تشكيل لجنة للتحقيق، وجهت إنذارات لعدد من الطلبة من بينهم وصفي. وفي سنة 1937 سجن وصفي في سجن اربد المركزي إلى جانب شفيق ارشيدات، وحمد الفرحان، وبدري الملقي وآخرين، بتهمة تشكيل جمعية غير مرخصة عرفت بجمعية “الحرية الحمراء”.
أنهى وصفي دراسته الثانوية بتفوق سنة 1938، وابتعث لدراسة العلوم والفلسفة في الجامعة الأمريكية في بيروت. اكتسب في الجامعة الأمريكية ثقافة عامة واسعة، وتكونت قناعاته الفكرية، وأقبل على قراءة الكتب بنهم شديد، وقد احتوت مكتبته على أكثر من 2700 كتاب باللغات العربية والإنجليزية والألمانية والكردية، تنوعت موضوعاتها بين السياسية والفلسفية والعسكرية والتاريخية.
3- كان الحلم الذي راود وصفي في مدرسة السلط بتشكيل منظمة سرية هو الحلم الذي وجد له ترجمة تنظيمية بانضمامه إلى حركة القوميين العرب، التي كانت تضم تشكيلا سريا يدرب على السلاح، وقد شكلت هذه التجربة أحد الراوفد الفكرية والعملية المبكرة لرؤية وصفي السياسية.
انتسب وصفي إلى “جمعية العروة الوثقى”، وهي جمعية ثقافية ساهمت في بلورة الفكر القومي في أوساط طلبة الجامعة. كما أعجب بتنظيم الحزب السوري القومي الاجتماعي الناشط في الجامعة، والذي ركز على الدعوة إلى وحدة الهلال الخصيب، وهي الوحدة التي آمن بها في رؤيته وطروحاته الفكرية والسياسية. كما سار في طليعة الطلبة المتظاهرين المؤيدين لثورة رشيد عالي الكيلاني 1941 ضد الوجود البريطاني في العراق.
4- تسلم وصفي أول عمل له بعد تخرجه مباشرة عام 1941 في وزارة المعارف، حيث عمل مدرساً في مدرسة الكرك ثم في ثانوية السلط الوحيدة في الأردن آنذاك، وأمضى في مهنة التدريس سنة واحدة.
كتب خلال عمله في التعليم إلى وزير الداخلية والمعارف سمير الرفاعي يطلب نقله من المعارف إلى وظيفة أخرى إلا أنّ طلبه رفض. وبعد مقابلة وزير المعارف ومناقشته الحادة في موضوع النقل، أرسل برقية استنكار لتوفيق أبو الهدى رئيس الوزراء. وبمجرد وصول البرقية تم اعتقال وصفي في سجن عمان المركزي، على الرغم أنّ والده كان يعمل متصرفا للواء البلقاء. ثم صدر قرار بعزله من وظيفته. وعندما علم بذلك قال لمدير السجن:"اليوم اقتنعت بأنّ معظم مساجينكم أبرياء، وليس الهدف من ذلك إلا إذلال الناس ومصادرة حرياتهم وفصلهم من وظائفهم لإشغالها من قبل أزلام أصحاب القرار".
وكان (كلوب) رفض تجنيد وصفي بعد تخرجه من الجامعة الأمريكية عندما حاول الالتحاق بصفوف الجيش العربي خلال عام ، بحجة أنّه يحمل مؤهلا جامعيا، ولم يكن في تفكير (كلوب) ضم جامعيين إلى الجيش.
5- ومن الأمور التي لفتت نظر وصفي وأنظار الشباب العربي آنذاك انخراط الشباب اليهود مع جيوش الحلفاء وتشكيل الفيلق اليهودي خلال الحرب العالمية الثانية، بهدف الحصول على التدريب العسكري. وكان من أهم الخلاصات التي وصل اليها الشباب العربي لتقييم الثورة الفلسطينية، وعدم قدرتها على حسم المعركة لصالحها، هو عدم توفر الأسلحة الحديثة، وعدم توفر الخبرة العسكرية.
وبناء على توجيهات من قيادة حركة القوميين العرب التحق وصفي سنة 1943 مع مجموعة من رفاقه بالجيش البريطاني، للحصول على التدريب العسكري، لقناعتهم أنّ حسم الصراع العربي اليهودي لن يكون إلا عسكرياً، حيث أتاح له هذا التدريب القتال في حرب 1948.
عمل التل في المكتب العربي في القدس، والذي كان أول هيئة تنظيمية لتوعية المواطنين في الداخل وتدريبهم. وفي ذلك الحين وضع أول دراسة للجيش العربي الذي يتصوره، والذي لا بد أن يأخذ على عاتقه خوض المعركة، تضمنت خطة لعمليات مقاومة تجري داخل فلسطين من خلال خلايا ثورية ووحدات ضاربة متحركة، وفق تخطيط علمي على غرار حرب العصابات.
على أن تصدع الجبهة السياسية الداخلية في فلسطين، ومخاوف دول الجامعة العربية من بعضها البعض، وضع المشروع على الرف، وبقي أسلوب التسليح الفردي مستمراً حتى إعلان مشروع التقسيم عام 1947.
6-عندما تشكل جيش الإنقاذ كان وصفي من أوائل الذين انخرطوا في صفوفه، وبدأ عمله مديراً للحركات الحربية ثم آمرا للواء الرابع الذي قاتل في الجليل. انتقد وصفي أخطاء جيش الإنقاذ، وكان يرى " أنّه يجب أن يكون تقدير الموقف العسكري قبل الشروع في أي قتال تقديراً موضوعياً يستند إلى معلومات دقيقة عن العدو، وسلاحه وتدريبه وإمكانياته، كما يشمل تقدير الموقف المعلومات نفسها عنّا وعن إمكانياتنا. ولعل سوء تقدير الموقف هو الذي جعل اللجنة العسكرية ترضى بمختلف القيود التي تتنافى مع أبسط المبادئ العسكرية من حيث تقسيم المناطق والشؤون الإدارية والمدنية، وهو الذي جعل اللجنة العسكرية تعتقد أنّ كل شيء يصلح لمعركة فلسطين، أي نوع من الجنود والضباط والأسلحة". ومن جديد قدّم وصفي خطة عسكرية مرفقة بالخرائط لتحرك الجيوش العربية وجيش الإنقاذ، ومن جديد لم يتم الالتزام بخطة وصفي ولا تحذيراته.
7- وبعد دخول الجيوش العربية الأراضي الفلسطينية يوم 15 ايار 1948، وأخذها زمام القيادة، واحتواء جميع الحركات الشعبية الفلسطينية والعربية المسلحة، انتهت مهمة جيش الانقاذ، ليلتحق وصفي بالجيش السوري الذي استوعب عدداً كبيراً من ضباط وأفراد جيش الانقاذ. وبدأ يعد العدة لاستئناف القتال مع العدو بعد الهدنة الأولى التي اعتبرها خطئا استراتيجياً، إلا أنّ انقلاب حسني الزعيم في سوريا 1949، أطاح بالخطة، فتم استدعاء وصفي إلى دمشق ليسجن من قبل حسني الزعيم في سجن المزة، حيث بقي في السجن حوالي ثلاثة أشهر.
8-في عام 1949 عاد وصفي إلى عمان، وفي هذه الأثناء عمل مع مجموعة من المثقفين على إصدار مجلة الهدف، فصدر أول أعدادها في 17 شباط 1950 تحت شعار "مجلة السياسة القومية والأدب القومي". وكان هدفها معالجة حالة التدهور الذي يسود الأمة العربية وأبنائها من تشاؤم وشك وضعف العزيمة.
نشر وصفي في أعداد الهدف قصة جيش الانقاذ، وكافة المعارك التي خاضها، مع تحليل عسكري وتقييم لكل هذه المعارك، محلللا حرب 1948 وأسباب فشلها، فكان بذلك أول شخصية أردنية حاولت دراسة القضية الفلسطينية.... يتبع