29-12-2020 01:21 PM
بقلم : المحامي علاء مصلح الكايد
شكّل نظام الإقطاع السبب الرئيسيّ لبروز الفكر اليساري بتياراته المختلفة و كان أبرز تلك التيارات " الاشتراكية " من منطلق أن لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار معاكس له في الإتّجاه ، وها نحن اليوم إذ نقترب من إعادة إحياء التجربة عبر جيل إبتعد عن السياسة لأسبابٍ شتّى لكنه سيعود إليها قسراً لا طوعاً عبر بوابة اليسار .
فجيل اليوم المتخم بالجراح بلا حرب ، الفاقد للآمال بلا عزاء ، تثور حساسيته لأبسط الأفعال من تجاوزات وانتهاكات حتى وإن جائت على صورة خبر تعيين شخص واحد أو فسادٍ بمبلغ زهيد ، فتلك العواصف الإلكترونية لم تأتي من فراغ أو لتملأ الفراغ كما يعتقد البعض ، بل هي نتيجة تراكمات وستترك فوقها من التراكمات ما لن يكفينا عقد كامل من الزمان لإصلاحه وعلاجه .
فجيل اليوم والغد إبتعدا عن السياسة وأُبعدوا عنها ، لأسباب متفرقة ، وكان أبرز تلك الأسباب رغبة الحزبيين القدامى أنفسهم النأي بأبنائهم وبناتهم عمّا قد يسبّب لهم المتاعب ، لكنّ هذه الأجيال التي ربّما لا يفرّق معظمها بين اليمين ،اليسار ، الشيوعية ، الرأسماليّة ، الراديكالية وغيرها من المصطلحات السياسية ستجد نفسها مؤيّدةً للإشتراكيّة عبر مقدَمات إجتماعيّة لا سياسيّة ، وقد بدأ الكثيرون بالإتّجاه نحوها ضمناً .
فمن عانى من البطالة في أرقامها القياسية ، وشعر بمانعٍ إجتماعيّ يحول بينه وبين وظيفة يستحقها لصالح آخر صعّدته معايير مفصّلة أو مفضّلة نالها لإرث لم ينله غيره ، ومن فقد الأمل في إمتلاك شقة أو الزواج ، ومن إستعصى عليه الحصول على قرض ليبدأ حرفة أو مهنة بتأهيلٍ كافٍ أو إستطاع ذلك وعجز عن الإستمرار ضمن المحدّدات والمتطلبات التي تُثقل الكاهل وتهزم العزيمة ، وكذلك من فارقه النوم خشية من عدم قدرته على تعليم وتطبيب أبناءه ضمن مستوى خدمات لائق ، كلّ أولئك يميلون - قصداً أو عفواً - لليسار الذي يرون فيه أماناً إجتماعيّاً وحقوقاً آدميّة أساسيّة بلا تمييز أو تمايُز ، ويؤثرون فكرة القليل الدائم المضمون على الكثير بعيد المنال .
وإن أسوأ ما يمكن تقبّله هو فكرة أن الجيل بأكمله - إلّا من رحم ربّي - غير مُسيَّس ، فتلك أكذوبة أثبتت الأيّام أنها وهمٌ وتجاهلٌ للواقع ، فلكلّ مسيرة من أثر ، ولا بدّ لهذا الأثر من ذروة ونقطة نهاية وتحوُّل ، ولعلّ الأسوأ من حالة الإنكار تلك هو ممارسة السياسة من غير السياسيّ البعيد عن أصولها وأدبيّاتها ومرحليّتها ، ولن تكون تلك أحزاب منظّمة مستجدّة أو منضوية تحت مظلّة أُخرى قائمة بل ستشكّل أنوية لها خارج الأطر التشريعية والسياسية المرسومة ، ومن أدلّة ذلك التعاطف الشعبيّ مع الحركات المناوئة حتى وإن غابت القواسم المشتركة أو المصالح ، ومن دلالاته كذلك الحركات النقابية المتتالية .
فكُرات الثلج التي تتدحرج بيننا حتى باتت أمراً واقعاً ننظر إليه بتقليديّة وإعتياديّة هي كراتٌ ساخنةٌ ملتهبة ، ولا بدّ لذلك من برامج حقيقيّة واقعية قابلة للتطبيق مبنيّة على فكرٍ وطنيٍّ وخبراء عارفين لا يعتمدون على أفكار معلّبة مستوردة لا تناسب البيئة الداخلية ، يستمعون لمشورة من هُم على الأرض ، ومن هُم منها .
ولعلّ معظم الحكومات قد أخفقت - أو أهملت - في الإلتفات لهذه الأزمات المركّبة التي ستواجهنا في المستقبل القريب ، فتجويد التعليم الأكاديمي بمراحله المختلفة وتوسيع قاعدة التدريب المهنيّ ورفع سويّة الخدمات العلاجية والتأمين الصحّيّ ودعم الإستثمار ليكون قادراً على إستيعاب أفواج الخريجين ومحاربة الفساد صوناً لمال الشعب العامّ ومقدراته كلّها توجيهات ملكية للحكومات المتعاقبة التي سكّنت الملفات أو غرقت في الأعمال الورقية والإستراتيجيات .
المفارقة فيما سلف سرده ، أن الغرب قد غادر مربع اليسار إسميّاً وإستصلح منه ما يتوائم مع الليبرالية ، فنجد النظم الرأسمالية قد طبقت الإشتراكية في ميادين الصحة والتعليم والإسكان وبعض الخدمات الأساسية ، وأذابت الفوارق بين أبناء الذوات وأبناء الحراثين وضبطتها بمعيار الكفاءة لا غير ، وحاربت الفساد بأشكاله المختلفة دون وجل ، وما زلنا نخشى أن نذكر حتى بأن ذلك كلّه هو أصل أمّتنا قبل ظهور التيارات السياسية جميعها .
ليس في هذا المقال ترويج أو تحذير من اليسار ، بل دقّ ناقوسٍ يستدعي الإهتمام بجيلٍ أطبق الزمان على صدره ، وضاق ذرعاً بخطط وبرامج بعضها لم يجني ثمن ما إستهلكه من ورق وحركة ، جيلٌ عانى وما زال من واسطة ومحسوبية خدشت وطنيته ، وفساداً متعدد المصادر والأشكال وقف عاجزاً إزاءه ، يطالعه بصمت ، جيلٌ باحث عن ذاته وعن منابر حقيقية توصل صوته من برلمانية وحزبية ، مخلص لقيادته ووطنه جاهز لبذل الغالي والنفيس في سبيل وطنه ، لكنه ينتظر الفرصة لينال ما يستحق من حقٍّ ومغرم ، ويؤدّي ما عليه من واجب ومغرم .
فمن يرصد التعليقات على مواقع التواصل الإجتماعي يلمس رغبة إجتماعية عارمة لم تعد تمتلك ترف الوقت في إنتظار العدالة الإجتماعية ، وسيلحظ أن الطرق المؤدية للصبر بدأت بالإنسداد وهذا ما يفسّر الأمواج الإلكترونية الإرتدادية العارمة التي بدأت تتمدّد ولم تعد تنتهي في يوم وليلة كما كان ، كما أنها تستجلب الأمثلة عند كل حادثة لتضغط بصورة أكبر على الرؤوس الحامية التي لا بدّ وأن تُحتَضَن ضمن أطر سليمة منتجة حقيقيّة لا شكلية ، مستمرّة لا آنيّة فحسب .
والله من وراء القصد