09-01-2021 10:14 AM
سرايا - تأمّل الشعلة الممتدة في يد التمثال اليمنى قليلا، ثم نظر بفضول في الكتاب الذي
تحمله اليد اليسرى للتمثال، وما بين اليدين رأس امرأة يعلوه تاج مكون من سبعة أسنّة،
فتنت عقله وشغفته حبّا، قبل أن يقلب الملصق البريدي الذي أرسله صديقه "خالد" من
أميركا ويقرأ على الوجه الآخر للملصق تهنئته له بالسنة الميلادية الجديدة، داعيا إياه
لزيارته في أقرب فرصة ليجرب حظه هناك!
تنهّد طويلا بعد أن وضع الملصق على مكتبه وقد علت عينيه نجمتان وسكنت عقله
الخيالات، راسما لنفسه أحلاما وردية في أن يصبح ذا شأن ومال تفتخر به أمه بل عائلته
بأسرها!
في بادئ الأمر ظن أن أمه ستكون أول الداعمين لسفره وتجربة حظه في بلاد العم سام، إلا
أنه لم توافق على سفره إلّا بعد إلحاح منه، خاصة بعد حصوله على تأشيرة السياحة لمدة
خمس سنوات.. كانت أمه ترقبه من بعيد وهي ترى الحماسة تسبقه في فعل أي شيء.
كثيرا ما حدّثها عن طموحه في أن يصبح رجل أعمال مشهورا يمتلك أراضي لا حدود لها
وأموالا لا عدد لها، وأنه سيبعث لها دعوة للإقامة معه عندما تسنح الفرصة، فكانت
تكتفي بهز رأسها ورسم ابتسامة خفيفة وهي في عميق داخلها تخاف أن تذهب أحلامه
سدى وتنتشر عبر الأثير حسرات وخيبات أمل، لكنها في الوقت نفسه تتمنى أن يحقق
بعضها.. طلبت منه أن يفكر مليّا في وظيفة العمل التي حصل عليها بعد طول عناء،
غير أنه رفضها بحجة أنه هناك سيحقق ذاته أكثر ولن يكون حبيس القروش القليلة
المتبقية من راتبه الشهري.
مضت الأيام سريعا حتى أتى يوم سفره، تاركا دموع أمه وذكرياته في حي الشميساني
وراءه، متأهبا للحظة صعوده الطائرة. كرّر وعوده لأمه ماسحا دموعها ومضى..
بعد رحلة طويلة امتدت ساعاتٍ طوالاً، هبطت الطائرة مدرج مطار "جون كينيدي"، وعند
الثالثة بعد الظهر كان يجرّ أمامه عربة أمتعته في طريقه إلى صديقه خالد الذي ينتظره
في الساحة الخارجية للمطار، وما هي إلّا دقائق حتى غادرا المطار معاً بسيارة استأجرها
خالد، كان يشعر وكأنه نسر يحلّق في السماء بحرية، وبينما خالد يثني على خطوته في
القدوم هنا معدِّدا محاسن المدينة وحضارتها، كان هو يتأمل ناطحات السحاب الشاهقة
والشوارع المكتظة بالسيارات والمارة لا تهدأ لحظة واحدة، انعطف خالد يمينا ويسارا
ووقف عند إشارات مرورية لا تُعَدّ، غير أنه لم يتوقف لحظة عن الثرثرة.
مع دخوله شوارع ضيقة، بدأ جمال المدينة يخفت رويدا رويدا وبدأت تتكشف جوانب
معاكسة لما رآه في بادئ الأمر، فباتت تظهر أمامه عمارات قديمة متلاصقة، طغى على
شوارعها عدم النظافة، ممتلئة بحوانيت صغيرة غير منتظمة البنيان، واكتسى الناس
هناك ثيابا تعكس طبقة اجتماعية أقل من متوسطة، رمق كل هذا بلمح البصر قبل أن
ينظر صوب صديقه الذي داهمه بابتسامة وقد قرأ السؤال في أم عينيه، فأجابه مسرعا: "لا
تقلق، هذا سكني المؤقت، سأغادره في قريبا وستأتي معي إلى سكني الجديد بالطبع".
دخلا عمارة وصعدا السلَّم حتى وصلا إلى الطابق الأخير، وهناك سلكا ممرا ضيقا يجرّان
حقيبة ثقيلة. بدا عليه بعض القلق، يكاد يسمع خفقات قلبه من فرط توتره، وما هي إلا
لحظات حتى دخلا الشقة، كان الأثاث متواضعا والتصميم بسيطا، بل إنها لا تزيد عن غرفة
بالكاد تتسع لشخصين، وحمام، وغرفة جلوس تطل على مطبخ أو جزء من مطبخ لفرط
صغره، إلّا أنه لم يهتم لكل هذا، فهو يعلم أن الإيجارات مرتفعة في "نيويورك"، وعليه
التحلي بالقليل من الصبر.
مضى شهر على وجوده محاولا جهده أن يفهم معادلة النجاح هنا، لم يكن الأمر ورديا كما
توقّع، فالوظائف لم تكن كالثمار على الشجر يلتقطها وقتما شاء، وخاصة أن التأشيرة
التي حصل عليها سياحية ولا تؤهله للعمل. وباءت وعود خالد في أن يجد له عملا في
المقهى المشهور الذي يعمل فيه، في الفشل، لكنه وجد له فرصة إدارة عربة طعام لبيع
"هوت دوج" بالتناوب مع صاحبها عربيِّ الجنسية، رحب بالفكرة في بادئ الأمر وهو يتذكر
مقولة "طريق الألف ميل يبدأ بخطوة"!
كان يستقيظ عند السادسة صباحا، يتناول كوب قهوة وكعكة محلّاة قبل أن يتنقل
بواسطة المواصلات العامة ليصل إلى مكانه المعتاد؛ مساحة صغيرة من رصيف بالكاد
يتسع لعربته أمام أحد المتاحف هناك، كان يبدأ عمله بجرّ العربة من مرآب السيارات
ووضعها في مكانها ثم يقوم بتجهيز الشطائر للزبائن، وتعبئة ثلاجة صغيرة بالعصائر
والمشروبات الغازية، ناهيك عن تعبئة أكياس الثلج وكنس الشارع أمام العربة حفاظا
على نظافتها وتجنبا للاحتكاك مع الشرطة التي يصيبه الخوف كلما مرت بالقرب منه، بل
إنه كان يهرب فور أن يلمح أحدهم يطلب بطاقة الإقامة من العاملين على العربات
المجاورة.
كثيرا ما كان المكان يزدحم بالمارة ومرتادي المتحف في فترة الظهيرة، فينهمك في
العمل ويقف ساعات طوالا وهو الذي كان يتأفف من مساعدة أمه في إعداد طبق السلَطة!
في فترة عمله كان يحاول توظيف كلمات باللغة الإنجليزية تعلّمها خلال دراسته ليتفاهم
مع الزبائن، وكانت تنقذه أحيانا، وتقف حاجزا أمام لكنة إنجليزية لا يجيدها أحيانا أخرى،
فيشعر بخيبة أمل!
مر شهر ثانٍ على مكوثه في نيويورك وبدأ التعب يتخلل جسده وحماسته تفتر، فكل ما
يجنيه لا يكاد يكفي وجبات طعامه وأجرة المواصلات العامة.. مرت الأيام رتيبة إلى أن جاء
ذلك اليوم الذي طلب فيه أحد الزبائن شطيرة بمكونات معينة، لم يفهم طلبه بدقة وبدلا
من الاستيضاح همّ بإعدادها من تلقاء نفسه، مما أثار غضب الزبون الذي طالبه بإعداد
واحدة بديلة، وعند تسلّمه إياها رمقه باحتقار ورمي أمامه بضعة دولارات ثم انصرف.
مدّ يده المرتجفة من برودة الطقس وأمسك بعض الدولارات والقطع النقدية، هزّها قليلا
ثم دسّها في جيبه، في تلك اللحظة فهم معادلة النجاح، فكما تعطي تجد! إلّا أن كرامتك
تنقص أحيانا في سبيل الموازنة بين طرفي المعادلة. في تلك اللحظة حامت في رأسه
أحلامه ووعوده لأمه في أن يصبح ذا شأن، عندها ضحك بصوت عال ابتلعه صوت آلة إعداد
القهوة في العربة المجاورة له على أرض الأحلام!