16-01-2021 09:35 AM
سرايا - تناسب قصائد عامر الطيب نهرا جارفا بسيوله واستعاراته ورمزيته.. سيلا مائيا له حياة
وصوت، يروي عطش التعبير عن الأحاسيس العصيّة عن البوح: الحب والموت والحزن
والهزيمة والخوف.. ويعكس في مرايا مائه فلسفة جمالية عميقة للأشياء في عالم
اللاشيء.
من رحم الحضارة البابلية، من سراج الشعور، من شريان دجلة والفرات، جرت نصوص عامر
الطيب مجرى جدول شفاف في كتابه المعنون "البقية في حياة شخص آخر". عنوان يضجّ
بالأسئلة والصراخ، يصيب بلهفة الاكتشاف، ويوقع القارئ في فخّ التفكير في ماهية البحث
عن هذا "الآخر"؛ من يكون؟ الأنا، أم أنت، أم ذاك الضمير المستتر "هو"؟
عنوان يقدم عزاء للذات البشرية المسكونة في كهوف دواخلنا حيث تقام مراسم التأبين
ويتردد صدى الحياة بعيدا عن ضجيج الآخرين الذي قد يحجب صوت الذات الداخلي على حد
تعبير "ستيف جوبز": "وقتك محدود، فلا تضيعه لتعيش حياة شخص آخر". إنه نداء
الأعماق، ونحن نمرّ سريعا في عجلة الحياة.. تلك القطة الأليفة في بيت عامر الطيب:
"إنْ وجدتَ حياةً في طريق ملتوٍ
اعتبرها قطّةً وخذها معك للبيت
أطعمها واسقِها أولاً
ثم دعها تتصرف كما تحب
إن كانت تخربش فهي حياةُ أحدٍ ما
وإن كانت تموء فقط
فهي حياتي".
حضور آسر لفلسفة الحياة.. حاضر مخيف ومستقبل مجهول:
"أخاف على يومي هذا فقط
لن تهمّني الكارثة التي تحدث غداً أو بعد خمسين سنة
يا ساعاتي القليلة
بلا شجع ولا اطمئنان
إذا تلوثت الآن، فما الذي ستعنيه حياتي الكاملة إذن؟".
حقيقة كونية يطرحها وسؤال وجودي فلسفي.. سؤال مطعون بنداء إلى أعماق كينونة
الكون، وصيرورة الحياة وديمومتها:
"كأنني كلما قرأتُ حياة أحد الأنهار
وجدتُه شخصاً معذَّبا لا ينسى".
هو شاعر يكتب رؤياه برؤيته البصرية لما يدور حوله، لتصبح البصيرة عصارة التجربة
ودهشة الواقع في "زمن القحط وانهيار القطط من الجوع" وما يعتري الانسان من ألم
وحزن وشهوة ويأس وأمل:
"يتوجب عليّ أن أهزمها
لأحصل على القليل من النار
أما في زمن الدعة فسأستبدل بها حياة شخص آخر".
رؤية فلسفية لاسترداد الحياة خارج حدود الذات.. أوَلم يقل ألبرت أينشتاين: "يبدأ الإنسان
في الحياة عندما يستطيع الحياة خارج نفسه".
نصوص شعرية مائية مغسولة بالخيال نرتشف فيها سحر المعنى ونلامس وجودنا على
نحوٍ مفارق لما اعتدنا الوجود فيه وبه. إلى عوالم الدهشة يأخذنا عامر الطيب، حيث
البحريات والأنهار والجدران والأشجار لوحة ناطقة تموج بالحياة في بنية نص شعري يتسع
لحقل مفردات واسع، يناسب في تآلف موسيقي رهيب بين الطبيعة والإنسان واللغة التي
يضمّخها بموسيقاه الخاصة بمنأى عن المبنى الغنائي العروضي مخاطبا "مستويات
عديدة من الوعي والإدراك للوصول إلى التعبير المأمول عن المعنى الوجودي للإنسان":
"يجب أن أقرأ كتباً كثيرة عن الهواء
لأوازن طريقتي في المشي
أو كُتباً عن الحزن
لأنام هادئاً على ذراعيك مثل العشب
أو كُتباً عن البحر
لتفادي أن أموت وحيداً على الرمل".
إنه شاعر يجيد العزف على أوتار الانزياح، لخلق سمفونية جمالية أدبية تغاير المألوف،
وتخالف المعروف.
من الأبجدية البكر، رهافة الحس، والألم يغزل شموس حروفه ليخبئ قلبه في دمعات
الغيم وضحكات الورد، في أنثى من عبير. أنثى عامر الطيب خُلقت من طينة الريحان
والياسمين. وردة تذبل في مزهرية الرجل في مجتمع ذكوري يقطف بهجة عبيرها: "كل
وردة تبدأ وردة وتنتهي امرأة".
هو شاعر ينظم الشعر على وزن جمر أنثاه ليحيا معها وبها بفلسفة مختلفة عن السائد:
"لستُ سندَ المرأة
أنا خائف مثلها".
فالمرأة -كما يرى- كائن إنساني مسكون بفوضى الحواس من حب وخوف شأنها شأنه.
هو المؤمن بالقلب وبالمساواة بين الجنسين.
عامر الطيب طاقة إبداعية خلّاقة تتجلى ألحانا ومواويل وآلاما, وعمقا في الفكر. هو شاعر
مسكون برؤى وطموحات:
"طموحي أن أتخلص من الشر
وأفتح استعادة الزمن المفقود على يدي "
إنّ قصائد الطيب تمثل رحلة بحث روحي في الزمن البشري المتواشج مع كينونة الوجود
للشاعر وما حوله.. رحلة سائلة في الزمن.. هل هو موجود لنعيشه أو مفقود لنبحث عنه
ونستعيده؟ رحلة ذائبة في زمن حالم يظهر فيه الشاعر مبشّرا بالسلام والجمال:
"الجمال يا هبة الإنسان لنفسه
سنحبّك بقدر مبهج
كأنك هبة الإنسان للإنسان الآخر".
عامر الطيب شاعرٌ يهب الجمال للقارئ ليعتنق الحياة في محراب شعره