23-01-2021 09:45 AM
بقلم : هبة احمد الحجاج
هل سمعت أو قيلت لك ،أو حتى استنتجت هذه المقولة
"صدفة خير من ألف ميعاد"؟
أتوقع أو بالأحرى أجزم أن كلنا قد مرت على مسامعنا أو تكلمنا بها ، أو حتى حصلت لنا مواقف أكدت لنا هذه المقولة .
ولكن ما حصل معي أنا تحديداً قد يُثر الدهشة ، إليك القصة .
أمي كمثل أي أم ، تخاف وتقلق وتحرص كل الحرص على صحة أبنائها ، ودائمًا تبرر خوفها وحرصها الزائد بمقولتها المعتادة ، و المتعارف عليها، والمتفق عليها أيضاً عند جميع الأمهات الأحياء أطال الله في عمرهم، والأموات رحمهم الله وأسكنهم فسيح جنانه ، ألا وهي " أنتم أغلى ما أملك " .
وبما أنني من ممتلكات أمي الغالية عليها ؛ وجب علي الحرص والخوف على ذاتي ، وأن أقوم بالفحوصات الدورية للإطمئنان على صحتي بين الحين والآخر ، ذهبت إلى المستشفى حتى أقوم بالفحوصات المخبرية المُعتادة؛ حتى أجعل أمي ترتاح فترة من الزمن وتطمئن أن جسدي ولله الحمد بصحةٍ وعافية ، وأنا أقف عند قسم الاستعلامات في المُستشفى ، كان على يميني رجلٌ يستخرجُ شهادة ميلاد ابنه ، وعلى يساري آخر يستخرجُ شهادة وفاة أبيه ، "مشهدٌ يختصر الحياة ".
رن جرس هاتفي وكنتُ متوقعاً أنها أمي ، قالت لي : بلهفة " ها بشر؟ " قلتُ لها " اطمئني صحتي جيدة جداً ولله الحمد " ، أقفلت أمي الهاتف وكأنها ملكت الدنيا بأسرها ، وجلستُ أنا بجانب رجلٍ طاعن في السن، رجل بدت عليه مظاهر الشيخوخة ولكنها كانت جميلة وجذابة نوعاً ما .
كان شعره يكتسي اللون الأبيض، ولحيته كانت تكتسي اللون الرمادي ، وكانت تلك الخطوط الرفيعة " التجاعيد" واضحة على وجنتيه ، وكأن هذه الملامح تقول لنا " هذه عبارة عن تجارب وخبرات هذه الحياة؛ ليست فقط عوامل زمن مرت على هذا الجسد ووضعت آثارها عليه" ، وبينما
كُنت أُمعن النظر في ملامح وجهه وأحاول أن أقرأ ماذا حل به على مرِ هذا الزمان ، وقف طفلٌ صغير لا يتجاوز الأربع أعوام وصافح ذلك الرجل المسن الذي قد يكون تجاوز ثمانية وثمانين عاماً ؛ مشهدٌ لعالمين مختلفين جداً !!
هناك يد أنهكتها عوامل الزمن والأيام ،وأخرى تستعد للمواجهة !
شخصٌ يشتاقُ لتلك الأعوام ، وشخصٌ يخافُ منها ، وأنا منغمسٌ في التفكير وكيف أن الحياة دواره ، كنتُ مثل ذلك الطفل وأصبحتُ الآن شاباً ،وغداً سأصبح مثل ذلك الرجل المسن ، الحياة عبارة عن محطات نتنقل من محطة إلى آخرى والزمن هو ذلك القطار ، لكنك لا تختار أن تبقى أو ترحل بمشورتك ؛ بل حسب ما يريدهُ زمنك ، التفت هذا الرجل المسن لي قائلاً " الهدوء هو حليب الشيخوخة،وأنا أرى أنك ما زلتَ شاباً" ، نظرتُ له مبتسماً وقلت " قد يكون هدوء ما قبل العاصفة " فضحكنا ، ثم رد قائلاً " في رحلة العمر، أيام لنا ضحكت فيها القلوب، وهز الفرح أعماقاً".
ثم نظر إلي متسائلاً عن سبب وجودي في المستشفى وأنا ما زلتُ شاباً ، أجبتهُ على الفور أنني لا أشكو شيئاً وللهِ الحمد ؛ ولكنني أردت ُ الإطمئنان عن وضعي الصحي لا أكثر ولا أقل ، ابتسم لي قائلاً " حافظ على صحّتك جيّداً، فهي الوسادة النّاعمة التي تستند إليها أيّام الشيخوخة".
أعجبتني ردود ذلك الرجل، شعرتُ لوهلة أنه يمتلك الكثير الكثير من الحكم والمواقف و عِبر هذا الزمان التي تذكرك بمقولة "جالس كبار السن واستمع إليهم ، سترى بأنك تعايشت معهم و خُضت في تجاربهم واستفدت الكثير ، وأنتَ لم تتعدى تجاعيد يديهم" نظر إلي مرةً أخرى وقال " نصائح الشيخوخة تضيءُ دون أن تحرق، مثل شمس الشتاء".
فضحكتُ بشدة وقلتُ له على الفور " يا جدي إنني أزداد إعجابًا فيك أكثر وأكثر في كل لحظة، أنت تقرأ الأفكار أيضاً وتستمعُ لها ".
ابتسمَ لي وقال " يا بُني يظنُ الشباب أن كبار السن حمقى، أما كبار السن فيعرفون أن الشباب حمقى ".
ثم قال " أنا أمازحك فقط" ، ثم سكت برهةً وقال "أترى ذلك الشيب "الشعر الأبيض " هو أرشيفُ الماضي".
قلتُ له " حدثني عن أرشيفك يا جدي" .
نظر إلى ذلك الطفل وقال" أترى ذلك الطفل كيف يروي لأبيه ماذا يريدُ أن يُحقق من آمال وطموحات عندما يكبر، والأب يستمع إليه بإنصات وإعجاب ، كهكذا كنت مع أبي في يومٍ من الأيام، قبل أربعةٍ وثمانين عاماً ، ليست بعيده هذه الفترة" ، قاطعته قائلاً " إطلاقاً، قريبة جداً" وبدأنا نضحك ، ثم قال " الشيخوخة ليست فقدان الشباب، وإنّما مرحلة جديدة للفرصة والقوة".
قلتُ له ممازحًا " نعم نعم ، البعض يولدون شيوخاً كمثلي والآخرون يموتون شباباً كمثلك تماماً".
قال لي " أحسنت الوصفَ يا فتى" .
تابع قائلاً " كنتُ في نفسِ حماس ذلك الطفل ، أذكر أنني قلتُ لأبي أريد أن أتزوج المرأة التي أحبها، وأريد أن أمتلك البيت الذي في مخيلتي ، وأيضاً السيارة التي أعشقها ومعجبٌ بها كثيراً، وسأدرس التخصصَ الذي أريده، وسأنجب عدد أطفال كذا وكذا ، أما بالنسبة لأخي أخذ يتكلم عن طموحاته وأمانيه، ومن ضمنها أنه يريدُ أن يصبحَ طبيبًا جراحًا ، أما أخي الصغير كان يريدُ أن يُصبح رجل الأعمال الأول في العالم " قاطعته قائلاً: حققتموها؟!" أجابني " نعم لكن بشكلٍ مختلف " ، لم أفهم ماذا كان يقصد .
تابعَ قائلاً " وَما نَيلُ المَطالِبِ بِالتَمَنّي وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا.
أما بالنسبةِ لي ، أصبحتُ طبيباً جراحًا مختصًا في الأعصاب، واشتريتُ البيت الذي في مخيلتي ، والسيارة التي تُبهرني ، أما بالنسبة للفتاة التي أحبها ، لم أستطع ، حرمتُ منها ، والدها لم يقبل بي كزوجٍ لابنته" ، نظرت له وقلت " الهموم في الصبا مثل الورود، وفي الشيخوخة مثل الجراح في الظهر".
نظر إلي وقال " الشيخوخة بآلامها خير من شباب بلا أمل"
وابتسمت ونظرَ إلي وقال " أنا لستُ حزيناً أني حُرمت ولكني رُحمت.
فبعدَ خمس سنوات من زواجي وزواجها ، توفيت وتركت طفل ، وأنا لا أُخفيك إذا تركتْ زوجتي طفل من الأطفال في البيت ساعة لا أعلم كيف أتعامل معه، وأبقى أنتظر قُدومها على أحر من الجمر ، في هذه اللحظة شعرت أنني لا أستطيع أن أربي طفل لوحدي، بحاجة إلى شخص معي وإلا سوف ندفع الثمن نحن الإثنين " الأب وابنه ".
لا تحزن على شيء فقدته ، فربما لو ملكته لكان الحزن أكبر ، الخيرة فيما اختاره الله تعالى لك".
نظرتُ له وقلت " ونعم بالله ، وأخاك اتخذك مثله الأعلى وأصبح طبيباً أيضاً" ، نظر إلي وقال " حين ترسم لنفسك طريقاً وتعجز عن المضيّ قُدماً تأكد أن الله رسم لك طريقاً أفضل وماأبعدك عن أمرٍ إلا ولَك بهِ صلاح.
أخي لم يصبح طبيباً بل أصبح مهندساً ، لأنه كان مصاب برُهابُ الدم أو هيموفوبيا (بالإنجليزية: Hemophobia or Haemophobia) هو مرض رهاب أو الخوف المرضي من منظر الدم، ويمكن أن تتسبب الحالات الشديدة من هذا الخوف المرضي في ردود أفعالٍ جسدية لا تظهر في معظم الفئات الأخرى من الرهاب، وعلى وجه التحديد الإغماء الوعائي المبهمي، ويمكن أن تحدث ردود أفعالٍ مماثلة مع مرضى فوبيا الحُقَنِ وفوبيا الكدمات".
تساءلت عن أخيه كيف تلقى هذا الخبر ؟ قال لي : أخي غضب ولم يرضى بنصيبه، بل سخط حظه حتى أنه على ما أذكر كتب في مذكراته "حتماً ستصيبك خيبة أمل عندما تبني وتبني أحلامك وأمنياتك وتشيدها قصوراً وقلاع، وتحلم بأن تقطف من جنانها أطيب الثمار، فتستفيق من حلمك بعد أن بللتك مياه البحر لتجد أنك كنت تبني على رمال الشاطىء" وبقي كذلك حتى ذلك اليوم المشؤوم، لا أدري أأطلق عليه ذلك أم ماذا ؟! فقد أصيب بصدمة سببت له مرض الرُّعاش (أو بالانجليزية Tremor) وهو حركة عضلية إيقاعية غير إرادية (غير مقصودة) تتمثَّـل على شكل حركات متتالية (تذبذبات) لجزء واحد أو أكثر من أجزاء الجسم. وهو الأكثر شيوعًا بين جميع الحركات اللاإرادية ويمكن أن يؤثر على اليدين والذراعين والرأس والوجه والصوت والجذع والساقين. تحدث معظم الهزات في اليدين. ولدى بعض الناس، يُعدّ الرعاش كأحد أعراض اضطراب عصبي أو يظهر كأثر جانبي لبعض الأدوية. على الرغم من أن الرعاش لا يهدد الحياة، إلا أنه قد يكون مُحرجاً لبعض الناس ويجعل من الصعب عليهم القيام بالمهام اليومية.
يمكن أن يؤدي الرعاش الفسيولوجي البسيط إلى درجات كبيرة من الإحراج والإعاقة الوظيفية، مثل عازف الكمان في اختبار حاسِم، أو أي محترف يُقدم عرضًا مهمًا.
قلتُ له " تُذكرني قصة أخاك بمسلسل "مسافة أمان" بالطبيبة سلام ، كانت طبيبة أعصاب وأصيبت بهذا المرض، لم تستطع أن تقوم بإجراء عملية ،
ربما الأقدار تأتينا بما لا نرغب ، لكنها مُحاطة بـهالة من الخيرة سنبصرها، ولو بـعدَ حـين ثم صمت" ، نظرَ إلي مجدداً وقال " ما بك ؟ لم تسألني عن أخي الصغير تحققت أحلامه أم ماذا ؟! "
ابتسمتُ وقلت " لا أدري حقيقةً هل أسأل أم ماذا ، بعد الذي سمعته ؟!" ثم قال لي " لا تخف حقق حلمه لكن متأخرًا ، أن تصل متأخرًا خيراً من أن لا تصل أليس كذلك ! " ، دهشت وقلت له : كيف ذلك ؟! قال لي " دائماً هناك أحلام نستعجلها نحن وتؤجلها الحياة،ثم نكتشف أن الحياة كانت على حق ، وأن الخيرة دائماً فيما اختاره الله لنا .
أخي أكمل دراسته في تخصص إدارة الأعمال ولم يكملها فقط بل أيضاً كان متفوقاً في تخصصه ، كان حلمه أن يعمل في الشركة الفلانية" ، قاطعته قائلاً : إنها شركة ضخمة ومعروفة وكما يقولون لها وزنها في الأسواق ، نظر لي وقال " أعرف أعرف ، ولكن شاءت الأقدار لم يتوظف بها بل على العكس زملائه الآخرين توظفوا بها ، أصبحت حسرة في قلبه حتى أنني على ما أذكر اتصل بي وقال " خيبة أمل، لو ظننت نفسك في القمة لتنظر للأعلى وتجد نفسك في قاع الأرض"، وأغلق الهاتف ، ثم توظف في شركة آخرى أقل منها بقليل وعمل بها عدة سنوات ، واكتسب منها المهارات والخبرات، وشاءت الأقدار أن تلك الشركة الفلانية تطلب منه أن يعمل لديها كمديرٍ فيها .
دُهشت من الفرحة فبتسم لي وقال " هو أيضاً فَرح مثلك تماماً، لا بل حتى أنه قفز من الفرح ، عندما يغلق الله بابًا ، فلا تجزع، ولا تعترض، فلربما الخيرة في غلقه، لكن ثق أن باباً آخر سيُفتح لك، وينسيك همَّك الأول، كل التأخيرات في حياتنا ليست مجرد صدفة أو عبث ؛ بل خلفها تدابير محكمة يكتنفها اللُّطف الإلهي من كل جانب!
فقد يتأخر العطاء ليصلنا في وقته المناسب لأن الله أعلم منا بمواطن إسعاد قلوبنا.
فاسأل الله الخيرة دائماً،وظن به خيراً ولا تعجل،تعلم يا بني أن لا تنظر للنصف الفارغ من الكأس، ولكن يجب أن تنظر إلى النصف الممتلئ".
ثم قام ونظر إلي بنظره يعلوها نظرةَ الثقة بالنفس وقال "مثلاً هذه الورقة ' فحوصاتك المخبرية ' كُتب عليها اسم مدير المُستشفى" قلتُ له" نعم فلاني الفلاني " قال " حضرتي هههههههه ، أرأيت الآن كيف تنظر إلى النصف الممتلئ من الكأس " !
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
23-01-2021 09:45 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |