07-02-2021 08:25 AM
بقلم : يوسف رجا الرفاعي
تُسائِلُني مَن أَنتَ وَهيَ عَليمَةٌ
وَهَل بِفَتىً مِثلي عَلى حالِهِ نُكرُ
عِقدٌ مِن الدُر نُظِمَت حباته من الف عام
وما زال يزداد تلألأً وتوهجا .
رقةٌ وعذوبةٌ وأدبٌ ولطفٌ وجمال ، يُنبئك عن هيبةٍ وسموٍّ ووقارٍ مَهيب، صدقٌ عفويٌ ، وفخامةُ نسبٍ رفيع يتهادى الى المسامع بصوتٍ شجيٍّ نديٍّ أبيِّ ،
اراك عصي الدمع شيمتك الصبر ..........
اما للهوى نهي عليك ولا أمر ................
لا اصدَقَ ولا انقى من حديث النفس للنفس ولا أدبٌ يعلو ويسمو فوق سمو هذا البوح وهذا العتاب الرقيق وهذه المَلامَة الممتلئة رفعة وعزاً وإباء .
هذا العتاب الأميري الخالد هو درة من درر الادب العربي الذي احتوته بطون الكتب ، فكان حديث هذا الفارس العسكري المغوار هو الاقرب لأعزِّ ما امتلكت العرب في الجاهلية ، فكانت الاقربُ محاكاةً لمعلقات العرب التي سطرت تاريخهم ومجَّدَت انسابهم وحفظت صور بطولاتهم ، كما لم تنكر جفائهم وقسوتهم واحترابهم ، فاقترنت قصيدة هذا الشاعر الامير خلوداً مع معلقات الاوائل من قبائل العرب تتقدمهم اشرافهم ،
كيف لا وهو القائل
الشعر ديوان العرب .... ابداً وعنوان الادب .
لقد حظي هذا الشاعر الامير المغوار بعلاقة متميزة مع ابن عمه سيف الدولة الحمداني الذي كان احد سيوف الدولة العباسية فكان نجماً مضيئاً في سماء تلك الدولة التي تمثل تاريخاً مشرقا من تاريخ العرب التليد .
انه الامير الشاعر ابو فراس الحمداني حامل بيرق سيف الدولة حيث كانت كل صفاة الأمير بكامل تجلياتها متمثلة في شخصيته التي ما زال بريقها لامعاً في الصفحات المشرقة من تاريخ هذه الامة ، فكان فارساً لا يُشَق له غبار وكان اديباً حليماً كريماً شجاعاً مهيبا مقداما ،
خاض المعارك وابلى فيها بلاء حسناً لم ينكرها عليه محب او صديق او غريم او عدو او حقود ، وما زال هذا الفارس الامير على هذا الحال من تسطير البطولات في ساح الوغى الى ان اسره الروم في احدى المعارك .
تجلت صفات الامير وبانت كل الفضائل التي عُرِفَت بها قبيلته ، وتفجرت في اسره صنوف العزة والاباء وتعالت بطولاته لِتُطاوِلُ بطولاته في ساحات المعارك الممتلئة بصهيل الخيل وطعن الرماح وضرب السيوف ، وطال به المقام في الاسر .
بعث الى ابن عمه معاتباً بعد ن غفل عنه وتركه تلك المدة اسيراً سجينا ، فكانت ابيات قصيدته التي تَزَين بها ادبنا العربي بزينةٍ هي تاجٌ لكل المناسبات ، فهي الشجاعة بمنتهاها ، وهي الصبر بلا حدود ،وهي العتاب ، وهي الشوق والحنين للام ، وهي الاعتزاز بالاهل والعشيرة والوطن ، وهي الرقة كالنسيم في البوح للحبيبه التي تخيلها وهي نسجٌ من خيال .
على هديٍ مِن اخلاق وفضائل الانبياء ارسل لابن عمه عتاب في عذوبته اصفى من الماء الزلال وفي صوت المفردات ارقُّ من نسيم الصباح ، وفي عُمقِ معانيها اثقل من الجبال الطوال .
وحفظت العرب ما قاله الصاحب بن عباد: بُدئ الشعر بملك، وخُتم بملك، ويعني امرؤ القيس وأبو فراس الحمداني .
لقد ترفَّع الامير في أسره عن الخنوع والخضوع لانكسار النفس وهي قيد الاسر فبدأ حديثه مع نفسه مشعراً اياها بالعزة ، ومتعجباً من شموخها وعدم انكسارها قائلا ؛
اراك عصي الدمع شيمتك الصبر ............
يا نفس ما اشد صبرك وما اعزُّ دمعك ، بدأ باحترام نفسه وتعزيز الثقة بها شاداً من ازرها بحديث امير يليق بأمير .
لقد سمى بفكره وتجلَّت في دواخله مكارم الملوك في الولاء والعطاء ، فصوَّر حبه للوطن والاهل والقرابة والعشيرة بأعلى صنوف الحب والعطاء والصدق في الشوق ، فخاطب كل هؤلاء مرسلاً لهم ابيات هذه القصيدة التي للوهلة الاولى يتبادر للاذهان بأنها قصة حب وعشق وهيام ، ودليل ذلك هو خلودها في الادب العربي ممثِّلةً لكل هذا ،
اختلق الحبيبة مِن وحي خياله ، جَسَّدَها بابهى صورة للحبيبة واعف محبوبة عرفها العرب ، فكانَ مُحِباً عفيفا منصفاً في وصفه للحبيبة وكان قوله منسجماً مع وصف هند بنت عتبه لبناتِ العرب، بأنهن فائقات الجمال ، شديدات الفخر بآبائهنَّ وانفسهن ، ويُضرب بهنّ المثل في الحسن وعلوِّ الشّرف ، عندما انشدت قائلةً ؛
نحن بناة طارق ... نمشي على النمارق .
يتبع.......