حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الإثنين ,23 ديسمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 1734

مقتنياتي التراثية .. استعادة الذكريات لمحاصرة شبح »كورونا«

مقتنياتي التراثية .. استعادة الذكريات لمحاصرة شبح »كورونا«

مقتنياتي التراثية ..  استعادة الذكريات لمحاصرة شبح »كورونا«

13-02-2021 08:32 AM

تعديل حجم الخط:

سرايا - بدأ اهتمامي بجمع المقتنيات التراثية منذ طفولتي الباكرة، بتشجيع من والدي الذي
تشكّل شغفه بها في عشرينيات القرن الماضي، وقد ورثتُ عنه بعد رحيله مجموعة
ضاعفتها مع مرور الأيام، وأصبح لدي في الوقت الراهن مجموعة كبيرة من المقتنيات
التراثية المشغولة من الخشب والزجاج والفخار والفضة والنحاس بالإضافة إلى طبعات

أولى لبعض الصحف ومخطوطات أصلية ومسكوكات نقود قديمة وقطع من السجاد
العجمي والحلي التقليدية والمكاحل والزنانير والملابس التقليدية التي طرزتها الجدات
في زمن مضى.
يعود عمر مقتنياتي إلى مئات السنين، وأحدثها اشتراها والدي قبل النكبة من حيفا،
وهي تحمل دلالات عربية وأعجمية تُظهر نبضاً إبداعياً يتشاكل فيه خيال مبدعيها من
الصناع المهرة، وما زالت حتى الآن تحتفظ بوهجها، كأنها صُنعت بالأمس، واستطاعت أن
تتحمل تغيرات السنين الطويلة التي مرت عليها.. وأتحامل على نفسي دوماً لإزالة ما
يعلق عليها من غبار، ألمسها بعناية كي لا تتأثر من خشونة يديّ لأنها بالنسبة لي
كائنات حية تتأوه إذا أصابها مكروه، أغني لها في صوت أجشّ خالِ من النغم، وأقصّ
عليها أجمل القصص التي عشتها معها منذ أيام يفا?تي.
عندما أجلس بين مقتنياتي في بيتي، أنظر إليها لساعات بعيني الضيقتين، أدنو منها
وأرتشف منها كؤوس شراب الفرح الذي ينقلني إلى زمن مضى، يتدفق منه مجرى لا
ينتهي من الذكريات، تُسمعني دقات أجراسها بدء استعراض دورة واسعة من الذكريات،
وأبدأ بتذكر قصة كل قطعة منها على شكل مشاهد ملونة كأنها مرسومة بفرشاة فنان
ماهر تتكرر أمامي بين أذرع جدران عالية مبسوطة على اتساع المكان، أشعر وأنا أنظر
إليها كأنني أصعد معها فوق أردنة الغيوم وتحوطني رعاية خاصة لأنني معها، وهكذا
تتعاقب المشاهد وألتقط منها بعض المعلومات المتعلقة بها، كمكا? شرائها واسم
بائعها وما أجريته معه من أحاديث في شؤون الفنون والدنيا..
أرى كل قطعة ملفعة بمعلومات كثيرة تظهر في صور ملونة تتماوج أمامي أقلبها بكل
مضامينها، أسترخي أمامها وأسمع صخباً مدوياً ينبعث منها يذكرني بقديم أيامي،
أطلقُ لها العنان وأدفعها لتصطف أمامي، أكشف عن خباياها وأضعها فوق أكتاف
عريشة دائمة الإخضرار تتدلى منها قطوف عنب جاهزة للقطف في كل المواسم.
كلما أرى مقتنياتي أضرب على وتر حيفا مسقط رأسي المكان الأثير على نفسي، أراها
تمتد أمامي، وأرى الطفل الذي كنته، ملصقاً كفي بكف والدي وأسير معه في بطء في
شوارع حيفا، كنت أقف معه طويلاً في سوق الأنتيكا نتجول فيه ويشتري فقط من صديقه
«أبو أنطون» الذي كان يُعرف من خلال ببغاء كان يضعها فوق كتفه تردد كلامه، وإذا
أزعجها تنقره برأسه الأصلع، أتذكره كلما أرى بين مقتنياتي مصباح الإضاءة بالكاز الذي
استعنت بضوئه للقراءة، وما زال متألقاً في بيتي بين مصابيح أخرى كثيرة مصنوعة مثله

من مادة الأبولين، لكنه يبقى الأفضل بينها لأن? يذكرني بكتاب «راس روس» للمربي
خليل السكاكيني المقرر على تلاميذ الأول الابتدائي في كل مدارس فلسطين، أسمع
أصوات التلاميذ في مدرستي، مدرسة البرج، وهم يرددون «راس روس»، أنصت بفرح وفي
أحيان أغفو لبعض الوقت وأرخي ذقني على صدري.
بين مشاهد المقتنيات أسمع رقة صوت والدي وأراه وهو يقلّب (اللوكس) الذي اشتراه من
طبريا قبل أن أولد، أنظر إليه بشيء من المتعة الجارفة وأتذكر أماسي حيفا التي كان
والدي يشعله فيها ويضيء الساحة المجاورة لبيتنا في أول شارع الناصرة، أستذكر أماسي
صاخبة كان يتحدث فيها عن أخطاء القيادات الفلسطينية، ويردد صديقه رشيد الإدريسي
أهداف عصبة التحرر الوطني.. تلاحقني أحاديث تلك الأماسي كلما أحدق في (اللوكس)،
أزحف إليه بقدمين متعثرتين وأضع أمامي أول عدد لصحيفة «الاتحاد» وأرى والدي أمامي
وهو يبتسم بفرح زائد عندما أقول له إنني أ?تب في كبري على صفحاتها، أشعر أن
انفعالاته تموج بموجات هادئة ويبدو تارة ساكناً، ثم أكتشف أن تياراً قوياً يجري في داخله
يعيده إلى شاطئ حيفا قريباً من أمواج العزيزية، يقترب منها ويقدم عروضاً مبتكرة
للسباحة على طريقته، ويلاحق بضعة نوارس كانت قريبة منه ثم ابتعدت عنه حملتها
الريح صعوداً إلى أعلى فوق الأمواج المتكسرة على الشاطئ.
وها أنا أقف الآن أمام الفونوغراف المنتصب ببوقه الطويل، يتجسد في مشهد خاص
يرجعني إلى طفولتي، أرى نفسي برفقة والدي يوم دخلنا محل بوتاجي الشهير في حيفا،
وأسمع الآن صدى كلمات البائع وهو يتحدث عن الفونوغرافات التي لديه، كانت كلماته
تخرج من أطراف شفتيه الجافتين، وكان والدي يستمع إليه ويحاول الكشف عن خفايا هذه
الآلة الساحرة، أما أنا فما زال يثيرني من هذه الآلة علامتها المحددة بصورة كلب مرسوم
عليها، وتحته بضع كلمات باللغة الإنجليزية تعني أنه صوت سيده.
اشترى والدي الفونوغراف الذي أحتفظ به حتى الآن، واشترى معه اسطوانات مشهورة.
شعرت وقتها بفرح عندما وصل الفونوغراف إلى بيتنا، وعبّرت عن فرحي بكلمات أعجبت
والدي عندما سمعنا صوت أغنية شهيرة لسيد درويش «الحلوة دي». كان يطرب لها والدي
كثيراً ويهتز طربوشه فوق رأسه وهو يحرك جسمه على إيقاعها يمنة ويسرة.
قطع كثيرة تذكّرني بوالدي وطفولتي، أشعر كأنني أعيش أيام كبري في حضانتها؛
تفرحني وتبكيني وتملي عليّ خيالاً ثرياً يعيدني إلى ماضي أيامي في حيفا، عندما كنت
أمشي متعثراً على درج عجلون في كل صباح في طريقي عبر وادي الصليب إلى المدرسة

التي ما زالت تتربع فوق تلة البرج مغلقةً تنتظر رجوع طلابها.
الذكريات تجعلني أحلّق بجناحين طويلين في أماكن كثيرة زرتها واشتريت منها
مقتنياتي، أقف الآن وأنظر حولى وأرى الصندوق الدمشقي الخشبي المطرز بصفوف من
صدف مرمرة النادرة، أجده يعيدني إلى سوق الحريقة المحاذي لسوق الحميدية في
دمشق، وأتخيل صورة «أبو أحمد اللحام» وهو يغمر رأسه بقبعة مطعمة بخيوط من
القصب، ويقول لي :«أوصيك فيه خيراً لأنه ينتمي لأسرة عاشت في دمشق قبل أربعة قرون
ولم يبق منها سوى هذا الصندوق المثقل بذكريات أجيالها المتعاقبة».
أما جاره في سوق الحريقة «عبد المجيد عوض» فاشتريت منه طقم شمعدان بلوري أحمر
اللون، كلما أراه أمامي أتخيل تلك الأسرة الدمشقية التي اقتنته قبلي، أراهم حولي، أحس
بهم وهم يقلّبون بأيديهم طقم الشمعدان ويرقصون حوله لأني ما زلت أحفظه في أمان،
رغم التغيرات التي أغارت عليه من تعاقب الأيام.
أتجه نحو «النملية» الدمشقية التي اشتريتها من محلّ على مقربة من قصر العظم الأثري،
ألمس فيها دبيب ذكريات تأتيني كالرياح الجامحة تكشف عن وجه الشخص الذي ابتعتها
منه، التمعت الكلمات بين شفتيه عندما قال لي إنه تلحمي من آل قطان، يحلم بالعودة
إلى مدينته رغم عتمة الدروب المحصنة بالإغلاق، كان يحدثني وهو يغلف النملية بورق
مقوى ليسهل حملها، وها أنا أسمع كلماته من جديد كأنه معي.
من دمشق أنتقل في شطحاتي الخيالية إلى بغداد عندما ألمس نرجيلة منتصبة في
إحدى زوايا بيتي مسبوكة من الفضة الخاصة بكل أجزائها، وقد ابتعتها من عبد الرسول
الجمالي، أتذكر كلماته التي تشع بالعاطفة، قال إنها من بقايا جد والده الأكبر، أخذتُها منه
بعد أن غلّفها بأحجية من العواطف، وها أنا الآن أحدق في صورته وأتذكر دمعة سقطت
على خده عندما خرجتُ بها من بيته الكائن في حي المنصور.
أحاول الآن أن أركز أفكري على مجموعة من المكاحل ابتعتها من القاهرة، أقف أمامها
ويقف معي صاحبها القديم مجدي أبو الدهب، قلّبها بيده ثم بدأ بالتجول بين بقية
مقتنياتي، وفي لحظة وقف أمام (كردان) يمني عليه عشر حبات كبيرة من الفيروز، لمسه
وهو يبتسم ثم اتجه إلى زاوية وتوقف أمام سيف من الفضة ابتعته منه قبل سنوات
طويلة، نظر إليّ بعينين دامعتين، ثم قال: «سيوف العرب في زمننا الراهن لا تُجرد من
أغمادها إلا عندما توجه للأقرباء فقط».

قلت له: «وإن وُجهت للغرباء تتحول إلى خشب».
وها أنا أجد نفسي في أصفهان التي تسمى «نصف الدنيا»، وأجد أمامي صديقي حسين
كاظمي الذي ابتعت منه قطعاً من السجاد العجمي الفاخر أهمها سجادة اسمها «شجرة
الحياة»، تمنى لي لحظة شرائها أن تتفرع فروعي مثلها وتنتشر جذوري كجذورها في أرض
أجدادي.
من أصفهان أصل إلى شيراز، أراها ممددة أمامي على نسيج سجادة شيرازية، عليها صورة
الشاعر حافظ الشيرازي، أمد يدي له وأنتزعه من نسيج الخيوط الصوفية المحكية بإتقان،
أرى على قبعته قطعة عقيق تضفي عليه توهجاً زائداً، أصافحه وأسمعه يدندن أبيات شعر
له منسوجة على سجادتي يقول فيها:
«قلبي يروحُ من يديْ أهلَ الوفا فِرارا
سرّي سيغدو ذائعاً بين الملا جِهارا
وقد كسرْتُ مَركبي يا ريحُ هُبّي فعسى
وجه الحبيبِ أن أرى وأبلغُ المزارا».
أوقدت أبياتُه قناديلَ شيرازية من مقتنياتي، تراقصت فتائلها بهالات ضوئية من غير رماد،
أبهره الضوء وفي لحظة صفّق بيديه وخرجتْ من نسيج السجادة راقصة تتمايل حوله
كأرجوحة تتطاير في كل الجهات.
تتطاير حولي الذكريات، وها هي تفتح ألبومات نقودي القديمة، وتنقلني إلى سهول قرية
سبسطية التاريخية العامرة بأعمدة رومانية وقناطر ومبانٍ تاريخية، التي كنت أزور فيها
عمتي مريم وأخرج مع أحفادها لنفتش تحت الأعمدة عن النقود التي داعبت يدي لأول مرة
وما زلت أحتفظ بها وأقلّبها بين الحين والحين، أراها بعيني المثقلتين وأشعر كأنني
أخرجتها من مخابئها تحت الأرض قبل أيام. ولا بد أن أتذكر الرجل السوداني الطيب عبد
الرحمن مكي تاجر الأنتيكا المعروف في أم درمان، الذي أهداني ثلاث قطع ضُربت في عهد
الإمام المهدي، وقد أخبرني أنها م? القطع النادرة، ورفض أن أدفع أيّ قيمة لها بشرط أن

أحملها معي عندما أعود إلى حيفا وأن أثبتها في لوحة على جدران بيتي عندما أسترجعه
بعد طول غياب.
أزيح ستائر الزمن من حولي وأتمشى من جديد في شارع الشهيد ديدوش مراد في مدينة
الجزائر وألتقي فيه بتاجر مقتنيات تراثية اسمه آيت علي ابتعت منه قطعَ نقود قديمة
وحلْياً بدوية من الفضة من صنع مناطق القبائل التي تعيش فوق قباب الجبال العالية، أراه
هنا معي في بيتي يقلب القطع التي اشتريتها منه، وأشعر بسعادة وأنا أرى صورته
المتخيلة، وصورة شخص آخر من الدار البيضاء بالمغرب وهو يزاحمه ويُذكرني بالدرهم
المغربي النادر الذي أهداه لي مع مجموعة من الخواتم القديمة.
أفردتها أمامه واقترب مني ثم استدعى اللحظات الأولى التي تعرفتُ فيها عليه في الدار
البيضاء، ردد ترانيم أعادتني إلى تلك اللحظات وعدنا معاً للتجول في مدينته حتى وصلنا
إلى سوق الحبوس للتحف التذكارية، وعلى حين غرة سألني عن مزهرية فخارية ابتعتها
من ذلك السوق، أشرت إلى مكانها في بيتي وفرح كثيراً لوجودها حتى الآن لأنها قديمة
تحمل في نقوشها أثقال مئات السنين.
الذكريات تشد وثاقها عليّ وتنقلني إلى شارع الزيتونة في تونس العاصمة، أقف أمام
رجب الأخضر الذي أرى دوماً صورته على خنجر ضخم ابتعته منه مرت عليه السنين
بمتواليات طويلة، تركت أثرها على عشر حبات ضخمة من المرجان والفيروز، أقف أمامه في
بيتي وأشد جذعي أمامه وأراه دوماً أطول مني وأشرد بعينيّ بعيداً، وأهيء نفسي
لحديث طويل مع رجب عن المقتنيات الجديدة في محله، يحدثني عن جوانبها المخفية
ويجعلني أمر في كوابيس أشبه ما تكون بكوابيس كافكا.
تلك الذكريات المتعلقة بمقتنياتي، تبعدني عن شبح الشيخوخة الذي يدق أبوابي.
فبالرجوع إلى الذكريات أتخلص من حمم الشيخوخة بعض الوقت وأتجول في أمكنة
كثيرة هنا وهناك.
أفك بالذكريات وثاقي من الضغوط اليومية وبخاصة في أيام الجائحة اللعينة التي تغلَق
فيها الأبواب وتزداد العتمة في كل مكان، في مثل هذه الظروف أزداد قرباً من مقتنياتي
وأشعر أنني أعود ثانية إلى ذلك الشخص الذي كنته في مقتبل العمر، أسرح في أحلامي
وأمرح بجذل طفولي، أمر عبر عشرات الأبواب ولا أرغب بالتعرف على مخارج لها، أريد أن أبقى
على هذا الحال كأنني لا أمتّ إلى الواقع بصلة، وفي لحظة أفيق من جديد على صوت

أغنية سيد درويش ما زالت أسطوانتها في بيتي يدغدغها الفونوغراف بإبرته بين وقت
وآخر، ويُخرج منها كلمات ومقاطع نغمية ?خفف عني حُرقة كورون











طباعة
  • المشاهدات: 1734

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم