28-02-2021 11:45 AM
بقلم : اسامة الاسعد
مصطلح نسمعه كثيرا هذه الايام خاصة عندما يكون الحديث يتناول دولة قديمة مثل تركيا (التي نشأت بها اول دولة عميقة هدفت الى الحفاظ على علمانية الدولة و عدم صبغها باية صبغة) او دولة قوية مؤثرة مثل الولايات المتحدة الامريكية و تحديدا في اروقة وكالة الاستخبارات المركزية، و لكن ايضا يستطيع اي باحث او اعلامي ان يستخدمه للاشارة الى ما يراه هذا المستخدم مناسبا في سياق ما هو بصدده.
و هو بالتأكيد مصطلح يعني القوة او القوى المتجذرة داخل دولة ما، اذ قد يقال دولة داخل الدولة و الامر هنا سيان و قد يعني ذلك الحزب الحاكم في دولة ما او جيشها او أثريائها او كل ذلك مجتمعا بما يؤثر على صنع القرار فيها و عليه يكون لها اي الدولة العميقة عناصر متغلغلة في مفاصل مؤسسات الدولة – اي دولة – كي تعمل لصالحها ضمن الفكر الذي تضعه حتى لو كان ذلك دون تنسيق، فهو قطعا لا يعني ان هناك آوامر يومية او حتى موسمية لا عموديا و لا افقيا و هنا تكمن اهمية او خطورة الامر.
وعليه فهو بالنتيجة شبكة من الاشخاص المنتمين الى تنظيم غير رسمي بطبيعة الحال له مصالحه الواسعة و عناصره في المؤسسات المدنية و مثلها العسكرية ايضا و كذلك السياسية (الحكومة) و الاعلامية و الاهم الامنية خاصة ان كانت هذه الدولة تحكم عن غير طريق الانتخاب، المهم ان العناصر كلها تعمل بما يؤثر على القرار السياسي بها اضافة الى الاقتصادي او اي قرار مصيري بها بما يضمن تحقيق مصالحهم دون غيرهم هم و من يمثلون.
و هي قد تستخدم العنف لتحقيق مصالحها و قد تكون اكثر سلمية بالاستمرار باقناع شعبها بانها دولة مستهدفة و بالتالي على هذا الشعب ان يتحمل اي صعوبة حتى يبقى في وطن او موطن و كل ذلك يعمل من خلال ابواب خلفية و قنوات مستترة غير شعبية و محتكرة من سادة الدولة العميقة و محددي مسارها، بحيث تتناقض مصالح الدولة العميقة مع مصالح شعبها تناقضا تاما.
و بطبيعة الحال و مع الوقت تتمكن الدولة العميقة من ضم قضاة تحت اجنحتها و قادة مجتمع من علماء و مفكرين و تبدأ في حبك اي طريق الى اي منصب صغر ام كبر بحيث لا يليه الا عنصر تابع او انه سيتبع فيما بعد ان هدد موقعه. كذلك يهم الدولة العمبقة السيطرة على المشرعين فيها و ليس فقط التنفيذيين او القضاة سواء كان هؤلاء المشرعين منتخبين او معينين، سيان حيث المهم هو توجيههم و التحكم بهم و بمصائرهم لاتمام المصلحة.
و ليس بعيدا ابدا تكريس المؤسسة الدينية في الدولة لهذا الامر بل هو محبذ لما لها من طابع غيبي يؤثر على العامة كما يؤثر على الخاصة.
بالنتيجة تتشكل تحالفات داخلية و احيانا خارجية (اقليمية كانت او عالمية) من اشخاص و مؤسسات و مساندين من الشعب هدفهم جميعا انشاء مصالح لهم ثم الحفاظ عليها و تنميتها من بعد، لذلك فهي عمليات ديناميكية دائمة الحركة.
و الحقيقة انها ليست دائما مصالح او اهداف شريرة بالمعنى الصرف، و لكن خطورتها او الشر المنبثق عنها هو سرية ادائها و عدم تمشي اهدافها مع عامة اهداف الدولة الام المعلنة في دستورها، و بالتالي كل شعبها و كل ما يعني مستقبله، اذ ان الدولة العميقة مهما توسعت لن تشمل الجميع و قطعا هذا ليس هدفها بل العكس، حيث تكرس كل شيئ لخدمتها على حساب البقية المتبقية المكافحة التي تتوق الى الحرية و الديمقراطية مستهدفة العدالة و المساواة و هذا بطبيعة الحال يضر الدولة العميقة.
الخلاصة ان الدولة العميقة ليست شرا مستطيرا و هي بالتأكيد ليست خيرا وفيرا و انما هي ما يشكل اي دولة في حقيقة الامر سيما من بعد الحربين العالميتين و تشكل العالم لناحية الدول المنتصرة و تلك المهزومة و من ثم ما حدث من حرب باردة و استقطاب ثم تشكل الدول الصناعية و التكتلات السياسية و الاقتصادية التي تلت ذلك ما اجج من المصالح و جعلها قاعدة كل شيئ ففقدت العدالة و ضاعت البوصلة و حلت اخلاقيات جديدة متحورة مكان كل ما كان من قبل، فبدا انه لا مناص منها.
فالدولة العميقة هي المشرع و المنفذ و المراقب، و هي من تخلق المشاكل و هي من يحتويها، و هي من تخلق التهديد و هي من تجابهه، و هي من تخلق العدو و هي من يدحره و هذا كله ينال رضا الشعب الغارق في مشاكله اليومية و هنا تكمن خطورة الدولة العميقة.
ولسنا نجانب الصواب ان قلنا ان هناك دولة عميقة تدير العالم اجمع و تلتقي في اندية كالماسونية التي كتب دستورها في العام 1723 و لنا ان نعتقد ان هذا النادي هو منشأ السرية و بالتالي افضى الى الدولة العميقة، او كنادي بيلدبيرغ الذي اسس في العام 1954 و يضم سياسيين و اقتصاديين و مفكرين و رجال اعمال همهم صنع القيادات في العالم و ضمهم تحت لواء النادي السري لتحقيق مصالح واسعة تكاد تضم كل شيئ. و قد يبدو من الطبيعي ان يكون هناك قيادة للعالم تدير الدول العميقة التي تنخر داخل كل دولة من خلال مؤسسات اممية كالبنك الدولي التابع للامم المتحدة و الذي بدأ دوره في اعادة اعمار دول اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، و صندوق النقد الدولي الذي اسس في العام 1944 و يتبع الامم المتحدة ايضا و يهدف الى تعزيز سلامة الاقتصاد العالمي و كل ذلك فضفاض كأهداف، و لا يعني شيئ ان لم يكن يهدف الى السيطرة على اقتصادات الدول، كل الدول، و هل من شيئ افضل من المال لفرض الهيمنة و التدخل من بعد في كل مفصل من مفاصل اي دولة مدينة او قصم ظهرها الفساد الممنهج.
اسامة الاسعد / مستشار سابق في رئاسة الوزراء