حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
السبت ,23 نوفمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 3875

"أمة تنسحب من التاريخ" .. مقالات توظّف التاريخ والأسطورة

"أمة تنسحب من التاريخ" .. مقالات توظّف التاريخ والأسطورة

"أمة تنسحب من التاريخ" ..  مقالات توظّف التاريخ والأسطورة

21-03-2021 08:43 AM

تعديل حجم الخط:

سرايا - يمثل هذا الكتاب من بين كتب وليد معابرة ما تمثله الواسطة في العقد، فهو أكثر كتبه
نفاسة لما يشتمل عليه من أصالة التجربة وحيوية الموضوع وأسلوب المعالجة.
وأول ما يلفت انتباه القارئ للكتاب عنوانه، ويعد العنوان العتبة النصية الأولى التي يدلف
منها القارئ إلى مواصلة القراءة أو الانقطاع عنها. وإنّ عنوانا مثل "أمة تنسحب من التاريخ"
يثير عددا من الأسئلة، مثل: لمَ هذا الانسحاب وما طبيعته؟ وهل جاء هذا الانسحاب
بغتة؟ وهل هو إجباري أم اختياري؟ وهل يليق هذا الانسحاب بمكانة هذه الأمة في التاريخ؟
وهل يمكن أن يدفع هذا الانسحاب بهذه الأمة إلى أن تراجع نفسها فتنهض من جديد؟
في العنوان -إذاً- ما يبعث على مواصلة القراءة لعل القارئ يجد في ما وراء العنوان ما
يحقق فضوله في معرفة الإجابة عن هذه الأسئلة.
لقد جاءت مقالات الكتاب متنوعة الموضوعات، فمنها ما هو اجتماعي ومنها ما هو
سياسي ومنها ما هو اقتصادي ومنها ما هو ثقافي، ومتماثلة الأسلوب يقوم أكثرها على
توظيف أسلوب السخرية شريطة أن يفهم أن استخدام هذا الأسلوب إنما "هو من خلال
عين المحب لا عين الساخط الشامت".
وسواء أكان المقال اجتماعيا أم سياسيا أم غير ذلك، فإن الكاتب إنما يصدر في كل مقالاته
عن قناعة مؤكدة فحواها أن هذه الأمة التي يتحدث عنها كانت سيدة الأمم وأنها "خير أمة
أُخرجت للناس" بيد أن هذه السيادة قد تهاوت لا لشيء إلا لأنها قد ابتعدت عن معتقدها
وأعرافها وعاداتها وليس من سبيل لتعود هذه الأمة إلى ما كانت عليه من عزّ إلا بالتوقف
عند هذه المشكلات التي تعاني منها وعلى رأسها مشكلة الفساد بكل ضروبه.
إن الفساد باسط ذراعيه على مفاصل الحياة، وغالبا فإنه إنما يأتي من فوق، قد لا تكون
هذه لغة الكاتب ولكن هذا ما تفضي إليه مقالاته، ففي الإدارة فساد، وفي الخطاب الديني
فساد، وفي القضاء فساد، وفي الانتخابات، بلدية أو برلمانية، فساد، وفي السياسة فساد.
إن الفساد بكل أشكاله هو العلة الفاعلة وراء انسحاب هذه الأمة من التاريخ. صحيح أن
أكثر أنواع الفساد خطورة الفسادُ السياسي والفساد المالي، وصحيح أيضا أن الكاتب
يستثني من هذه الأمة فئة تقاوم الفساد بقوة ولكنها ليست من القوة بحجم قوة
الفاسدين، ولكن الصحيح أيضا أن ذلك لا يمنع من التصدي له ولو بالكلمة، لقناعة الكاتب
المطلقة بأن للكلمة تأثيرا كبيرا في تربية الأجيال. "ولا شك أن للكلمة ثقلا في تحديد
مصائر البشر، فهناك كلمة قد تدخلك الجنة، وهناك أخرى قد تقود بك إلى النار، فهي

عنوان المتكلم ودليله... فضلا عن أنها مفتاحه إلى قلوب الآخرين، وبها يمكن أن تتغير
الأحوال وتتبدل الأوضاع الاجتماعية بعامة والأوضاع السياسية بخاصة".
قد تفرض السخرية على الكاتب أن يحيط علما بأسرار العربية ودقائقها، المهم أن
السخرية التي يلوذ بها الكاتب بقدر ما تنتزع الابتسامة من القارئ تكشف عن الجوانب
المخبوءة في النفس الإنسانية مما لا ترغب البوح به أو الكشف عنه، والأهم أن الكاتب في
سخرياته إنما يريد البناء لا التقويض، والتهذيب لا التسفيه، والإصلاح لا الانتقاد، وأنه إذ
ينظر إلى الداء ويضع الدواء إنما يفعل ذلك من خلال عين المحب الغيور لا عين الشامت
الحاقد.
ثمة أمثلة كثيرة على سخرية الكاتب مبثوثة إن لم تكن في كتابه كله ففي أغلب مقالاته،
من ذلك مثلا قوله في مقاله "لعنة الأرادنة": "لكي نتمكن من محاربة اللصوص والقضاء
عليهم فلا بد من استبعاد بعض البشر واستئجار كلاب الحراسة التي تنماز بالوفاء
المطلق لحفظ خزائن الدولة والحفاظ على الأموال العامة حتى لو اضطررنا إلى اتباع الأمم
السابقة في منهجهم بوضع الألغام وحقن خزائن الدولة بالميكروبات السامة أو اللجوء
إلى رصد قاتل لكشف سوءات اللصوص."
ولعل من أبلغ الأمثلة على سخرية الكاتب ما يورده -في كتابه "ذكريات خبيثة"- ضمن
خاطرة له بعنوان "قاتل البحر الميت"، يقول: "في غرفة التحقيق سُئلت عن اسمي؟ فقلت:
إني قاتلُ فساد تجبّر علينا فأحرق النبت! قالوا: مَن أبوك؟ قلت: إنه البحر اللجّي الذي طُبع
على التزام الصمت! قالوا: ومَن جدّك؟ قلت: إنه الميت الغريق الذي حُرم امتلاك اليخت!
قالوا: أين تسكن؟ قلت: بجوار أرض اغتصبها مَن يخشى القتال في يوم السبت! قالوا:
مؤهلاتك؟ قلت: مثقف عربي سار على طريق وعر يفتقر إلى (الزفت)! قالوا خبراتك؟ قلتُ:
أمضيت عمري كزجاج بيد مبتدئ يتعلم فن النحت! فصعب الأمر بينهم فتنادوا: لا بد من
تلفيق تهمة تنسيه الزيتون والزيت! فاجترّوا كلماتي واختاروا أغدقها... ثم اتهموني بجرم:
قاتل البحر المي"!".
قد يبدو ما أقوله هنا ضربا من الاستطراد خارجا عن الكتاب الذي أنا بصدد قراءته ولكنه
الاستطراد الذي لا بد منه لسببين: الأول لأنه يفسر اقتران اسم الكاتب بهذه اللازمة "قاتل
البحر الميت"، وأن هذا الاقتران يمثل من السخرية الذروة والسنام، فهؤلاء المحققون لا

وبالمقابل، فإن الكاتب يعرض عنهم ويسخر منهم وأيّ سخرية أكثر من أن يجيبهم بغير
ما يودّون؟! وأيّ سخرية أكثر من أن يزيغ عن سؤالاتهم فينحرف بذلك عمّا هم لمعرفته
يتشوقون؟ وأيّ سخرية أنكى من أن يتم اجترار كلماته "قاتل" و"البحر" و"الميت" وضم
بعضها إلى بعض فتتشكل بهذا الضم تهمة جرم "قاتل البحر الميت" الذي قذفه به
المحققون؟ ثم أليس من السخرية أن لا يعرف المحققون أن البحر الميت لا حياة فيه وأن
ضرب الميت حرام فكيف بقتله؟! وألا يعرف المحققون أن قتل البحر، ميتا أو غير ميت، إنما
هو ضرب من الاستحالة لا يقع في خيال أو وهم؟!
وعلى الجملة فإن هؤلاء المحققين موجودون في كل عصر ومصر، ويستلهم الكاتب ما
في التراث الديني ويوظفه في تكثيف صورتهم. ولعلنا نلاحظ أن الكاتب قد استلهم في
حديثه عن أبيه الذي سبقت شهرته مشاهدته إنه بمنزلة البحر اللجي أو هو البحر اللجي
نفسه الذي أعده االله ليعذب به الفاسدين المفسدين والضالين المضلين والظالمين
الظالمين. وأليس من السخرية أن يكون المحققون من بين هؤلاء أو معهم؟! يقول تعالى
في كتابه الكريم في وصف البحر اللجي "أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه
موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل
االله له نورا فما له من نور".
وهكذا تطّرد السخرية في مقالات الكتاب، ولكنها السخرية التي لا تهدف إلى تجريح أو
تشويه ولا تتغيا إيذاء أو اغتيالا. صحيح أنها سخرية موجعة ولكن الصحيح، أيضا، أنها
السخرية التي تتوافق مع الهدف الذي تقصده: الإصلاح الذي يعد الخطوة الأهم على طريق
استعادة الأمة ما كان لها من هيبة وسطوة.
إن الكاتب على قناعة بأن الإصلاح آت لا محالة وأن الفساد لا يزيد عن أن يكون بمنزلة الطفح
على الجلد سرعان ما تزول آثاره على حد قوله، ويعزز ذلك بأن أمةً هي خير أمة أُخرجت
للأنام لن تقبل بالفساد من قريب أو بعيد، وأن لدى هذه الأمة من عراقة التاريخ وأصالة
الحضارة وتنوع الثقافة ما سيمكنها من الثبات في وجه الفساد وهزيمة الفاسدين فتعود
لتأخذ مكانها بين سائر الأمم.
وإذا عطفت آخر الكلام على أوله قلت: لقد توقف الكاتب عند أكثر المشكلات التي يعاني
منها الإنسان محليا أو عربيا وتفاعل معها تفاعلا جليا وأبان في تناوله لهذه المشكلات
عن ثقافة رحبة تتبدى في توظيفه التاريخ والدين والأسطورة أحيانا واختار من الأساليب

أكثرها تحقيقا للهدف. أما لغة الكاتب ففيها من التشبيه والاستعارة والمجاز ما لا يرتفع
بها إلى الإغماض أو الاستغلاق أو يدنو بها من الامتهان أو الابتذال وفيها من الاستطراد ما
ليس بمخلّ للمعنى وفيها من التناص ما يدل على أصالة النص وغزارة القراءة.











طباعة
  • المشاهدات: 3875

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم