22-03-2021 09:16 AM
سرايا - تشكل قصيدة (ثلاث ليالٍ سويّا) للشاعر الأردني جريس سماوي صورة مكثفة للإنسان المُثقَل بأحمال الفكر وأعبائه ومسؤولياته، وقد تُرِكَ وحيدا في أزمته يتقاذفه التفكير المضني والهموم المتراكمة. وقد رسم الشاعرُ من خلال اللغة والصور والإيقاع لوحة حية تعبر عن الاندماج الصوفي بالوطن، وإعلان التمرد على واقع الرداءة والفراغ متدثّرا بتيمة الأبوة كي يتجنب اعتبار تمرّده عقوقا أو خروجا عن الجماعة.
يبدأ جريس بتجسيد وحدته وحزنه من خلال صور وتراكيب دراماتيكية تحمل المتلقي على صهوة اللغة إلى عالَم الشاعر الجالس فوقَ سجّادة الصمت تجتاحه الوحشة والخذلان والشعور بالاغتراب والنكران، يتأمل في ذاته ويصغي إلى صوت روحه المنهَكَة والمثقلة بخيبات الأمل وغدر المقربين والأصحاب:
(على صهوةٍ من دخانِ الرؤى/ فوق سجّادة الصمتِ أجلسُ/ مستبطناً عمقَ ذاتي/ وحيداً ومستوحداً في الخفاءِ/ وأنظرُ في داخلي/ ثمَّ أصغي إلى صوتِ روحي، وأبكي)
ثم يأخذنا معه في رحلته مع ذاته وأفكاره، فنرى أسلافَه الذين صحبهم زمنا وكان لهم نعم الأخ والرفيق والصديق، لكنهم عبروا فرادى إلى أحلامهم وأوهامهم دون أن يلتفتوا له ولصحبته ولزمنه الذي قضاه معهم، عبروا منتصبين صامتين كلٌّ يغني على ليلاه وقد تنكّروا للصحبة في رحلة الاستجداء والفراغ والأحلام العمياء: (وأصغي اليهم، فرادى يمرّونَ منتصبينَ وهم يطأون العماءَ بأحلامهم، وأشيرُ إليهم، وأعرفُهم واحدًا واحدًا، وأقولُ لنفسيَ ها هم يمرّون أسلافيَ الغابرون البعيدون).
يعبّرُ الشاعرُ هنا عن حال المثقف المهمَّش وهو يعبر بوابة الأسى إلى محراب الروح، يلوذ بالصمت والوقت علّه ينجو من حزنه وخيبته برفاقه وأصدقائه، فيرفعه هذا الصمت إلى سدرة النور، وتتكشف أمامه حقائق الأشياء وخوافيها، فيعرج إلى حيث يشعر بالرضا عن ذاته، وقد حافظ على روحه خفيفة شفيفة نقية تقية، ونجا من أن يكون كالعابرين لاهثا خلف الضوء متنكرا للأصحاب: (ويرفعني الصمتُ فوق قبابي الخفيضاتِ، يأخذني الصمتُ كالهذيانِ إلى العتبات وأعْرُجُ، أرقى إلى هيكلِ الذاتِ مستترا في انكشافي على النورِ، مستيقظا من سباتي خفيفا، شفيفا، نقيّا، تقيّا، ألوذُ بذاتي وأسرارِها صامتا).
وقد فضّل صاحب الليالي الثلاث أن يبقى (كاهنا أخرسَ الفمّ)، (غريب التقى) لا يسمعه العابرون إلى حزنهم ولا يصغي له المارون إلى صمتهم، واختار أن ينأى بنفسه عن ذاك الصراع كله ويبتعد عن رفاق الأمس الذين لم يقفوا عنده ولم يلتفتوا إلى أوجاعه وهو يهلك أسى واغترابا.
ويحاول الشاعر الطيران إلى أبيه/ وطنه بأحلامه وخيباته، لكنه يطير ببقايا ريش وبلا أجنحة، يتعكّز على ما بقي منه لعله يجد في حضن وطنه ما لم يجده عند رفاق الأمس: (صامتٌ وأصلّي إليكَ وأرجوكَ يا وطني يا حبيبي ويا سندي إذ تداعى وغادرني فتداعيتُ، قلتُ: تمسّكْ بأجنحتي يا حبيبي ويا سندي، ليسَ لي أجنحةْ. وما الريشُ هذا سوى تعبي يا أبي، تعبي من حصادي وزادي)؛ يظهر صاحب النص في هذا المقطع ممتلئا بمشاعر الوحدة والاضطراب، باحثا عمن يعوّض عليه خساراته وخيباته، وقد توكّأ على وطنه متخذا منه سندا يركن إليه ضعفه ويخفف عنده آلامه علّه يترجل عن غربته ويرسو على بر الأمان والسكينة والاستقرار النفسي، ويكشف الشاعر عن ضعفه بقوله إنه بلا أجنحة، وأنه لا يمتلك سوى تعبه وبقايا ريش، وهنا إشارة إلى احتياجه إلى سند حقيقي لا يتهاوى ولا يتداعى، سند يستطيع أن ينجو به من دياجي الحزن والخيبة والاغتراب، وقد أكد أنه على يقين من أن وطنه أهل لأن يكون سندا حقيقيا:
(وهذا يَقيني/ تمسّكْ إذن بيقيني/ لننجو معًا/ هل يقيني يقيني، يقينا؟)
ويستحضر جريس سماوي قصة سيدنا زكريا مع ابنه يحيى عليهما السلام؛ إذ يصوّر نفسه وكأنه يحيى المنذور لأبيه زكريا، ويتجلى الشاعر في المحراب ليكون الابن البار لوالده الوطن، وهنا يُصلي الشاعر صلاة يبث من خلالها ما يعتصر في روحه من وجع الغربة وتخلي الأصحاب: (أنا لا أباهي هنا بالخسارات، لكنَّ بابَ الفجيعةِ منفتحٌ كالمسارِ على ردهةِ الموتِ، أجفلتُ إذ أدركتْنا المفازةُ، واستوقفَ القومَ ظلٌّ بعيدٌ وأنبأنا الصوتُ عبر المدى، لا تمرّوا، وأجفلتُ إذ قالَ لي سلفي: لا تمرّوا)؛ فالشاعر هنا يلوذ بالوطن الأب، ويتمسك به بينما باب الفجيعة منفتح على مصراعيه، فيتوحد الابن بأبيه ويحلقان معا، لكن السماء بعيدة والأحلام والمفازات ليست في المتناول، والرفاق الأسلاف يعجون بالزمان والمكان، هؤلاء الأسلاف الذين كانوا بالأمس أصدقاء أصبحوا اليوم أعداء يتربصون بالابن وأبيه ويضيقون عليهما سبل العيش الهانئ.
وفي غمرة الأسى واليأس والتوتر النفسي الذي يعصف بالابن/ يحيى، يتدخل الأب/ زكريا مخاطبا ابنه المخذول:
(تنّح بنا جانبا يا بُنيَ/ سيمضي الهواءُ الخبيثُ/ وينحسرُّ المدُّ/ ينفتح الضوء من قبّةٍ في السماء)
وكأنَّ الأب ينصح ابنه أن يبتعد عن صراع البحث عن الضوء بلا فائدة أو معنى، وأن يتنحى جانبا عن عبث الركض وراء الأحلام الفارغة والأوهام التي لا تزيد صاحبها إلا تعبا وضنكا، ولا تكسبه شيئا في المقابل، والتنحي هنا ليس هروبا من المواجهة إنما هو حكمة الابتعاد عن مهب الريح حتى تمر بسلام، وفي هذا السياق يقول المثل: لا تتسابق مع الحمير، لأنك إذا خسرت ستصبح حمارا خاسرا، وإذا فزت فستكون الحمار الأفضل، فالأجدى بصاحب العقل أن ينأى بنفسه عن الخوض في سباق يتنافس فيه ذوو الأوهام والفراغ والعبث. وبالعودة إلى (ثلاث ليال سويا)، فإن الشاعر يدعو المثقف المغبون من خلال دعوته لنفسه أن يترك مدّعي الثقافة والإبداع يرتعون في غيهم وأوهامهم، وأن يتحلى بالصبر حتى تنفجر فقاعاتهم ويمر الهواء الخبيث والمدّ المدمر، عندها سيظهر الحق ويزهق الباطل وإن الباطل كان زهوقا. وفي ذلك الحين، لن يحتاج الابن/ الشاعر إلا إلى نوره الداخلي ليضيء المسافة إلى الحق والحقيقة، حتى وإن كان غيما يصلي بلا نجم، أو راهبا بلا مصباح، على حدّ تعبيره.
ثم يتناجى الصاحبان: الابن وأبوه، ويتساءل الشاعر المتخم بالمسؤولية تجاه أبيه/ وطنه، من منا يلوذ بالآخر؟ ومن سينجو بأحلامه ممن يحاولون قتل الإبداع والثقافة والأحلام الوردية في نفوس المثقفين الحقيقيين ليروجوا للهراء والترهات؟ وفي تلك اللحظات العصيبة من الصراع النفسي والوجودي، يعاهد الابن/ الشاعر أباه/ الوطن أنه لن يخونه مهما اشتدت الصعاب؛ فالوطن بالنسبة للشاعر يمثل الملك والتاج والكبرياء والطحين والقمح والزاد والضوء والنشوة والحارس والسياج والاحتجاج على الموت؛ ليس موت الأجساد فقط، إنما موتُ الأحلام والركونُ إلى الرداءة الفكرية والإبداعية: (أنا لستُ أرثيكَ يا صاحبي وحبيبي، أنا لا أخونُك يا ملكي ونصيري وتاجي ويا رفعتي، يا طحيني وقمحي وزادي، وضَوء ابتهاجي ويا نشوتي، يا احتجاجي على الموتِ، يا حارسي وسياجي).
وفي نهاية القصيدة، يُعلن الشاعر بشارة بزوغ الحق من خلال تمثله قصة صيام زكريا عليه السلام ثلاث ليال سويا في تصوير تمثيلي بليغ بديع، فكما كان الصيام لثلاث ليال دليل زكريا على قدوم ابنه المنتظر يحيى عليهما السلام، فإن الشاعر تمثل البشارة ذاتها لينبئ ببشارة انتهاء الأسى والحزن، إلا أن جريس في قصيدته لم يحدد السبيل إلى الخلاص، ولم يشر إلى نوع البشارة المنتظرة، بل أفسح المجال لخيال المتلقي لتوقع ذلك؛ المهم أن ولادة يحيى مؤكدة بدليل الصيام ثلاث ليال سويا، وبتكرار فعل الولادة لفظا ومعنى وتناصا:
(ولكن سأُعلي الرؤى/ وألوذُ بصمتي/ ثلاثَ ليالٍ سويّا/ وما زلتُ أومئُ سرّاً خفيّا/ ويا زكريا/ سيولَدُ يحيى/ سيولَدُ يا زكريا).