24-03-2021 03:45 PM
بقلم : يوسف رجا الرفاعي
لم يبدأ رسالته بمقدمة مألوفه ، ولم يهيئها لسماع كلمات كالؤلؤ في تَوَهَّجَه وكالعقيق والزمرد والياقوت في مفرداته، ذهب بعيدا جداً مُحلِّقا بفضاءٍ غيرَ منتهي ،
حار َ بطلبه السامع ، فهذا الطالب أمير ، وكلام الامير مطاع ؟ فكيف يكون السؤال كما اراده امير الشعراء منشدا :
سلوا كؤوس الطلا.... هل لامست فاها
واستخيروا الراح.....هل مسَّت ثناياها
انه اللقاء الاول الذي جمع امير الشعراء الباشا أحمد شوقي في حفلٍ دُعيَ له كبار القوم وعليته ، وكانت الانسة ام كلثوم ضمن هذه الكوكبة من الامراء والاميرات والباشاوات حيث كان هذا في العهد الملكي بمصر آنذاك.
كان امير الشعراء قد سمع اطراء النقاد والعارفين بالفن واصالته واصوله للانسة أم كلثوم ولم يكن قد سمعها عن قرب أو مباشرةً ولم يكن رآها من قبل ،
وها هي الآن تجلس امامه بعد ان اسمَعَت واطرَبت واهتزت لها الطرابيش التي على رؤوس النبلاء والوجهاء وعلية القوم وقد انتشوا طربًا ، ثم تعاود الجلوس امام امير الشعراء الذي من دهشته لِما سمع من شدوٍ شجي لامسَ شغاف القلوب ، طلب من النادل كأسا خاصًا من الشراب ليقدمه للانسة ام كلثوم باسم الباشا احمد شوقي إعجابًا وتكريمًا واعترافا ، فما كان منها وهي التي تعودت مجالسة النبلاء والامراء والمثقفين والادباء الا الرد على هذه اللفتة من الامير الشاعر بأن قرَّبت الكاس من شفتيها وكانها رشفت منها ، وهي بالواقع لم تفعل ، ولكنها اللباقة الادبية من وجهة نظرها،
أُعجِبَ الشاعر الامير بهذا التصرف واكبرَ فيها امتناعها عن شرب ما في الكاس ، ودون انتظار او اصطبار اخرج قلمه من جيبه وورقة وبدا يخط عليها رسالته التي ذاع صيتها واصبحت من روائع ادبنا العربي .
لم يرسل لها الرسالة مع ساعي البريد ولم يكلف أحد للقيام بذلك بل ذهب بنفسه الى منزلها واوصل لها الرساله .
يَقصِدني ! يتحدث عني ! يَذكُرني انا ! يَعنيني انا ! لم يكن يراها احد وهي تقرأ الرساله ، لكنها لم تخفي او تتمنع عن البوح بدهشتها وذهولها وهي تقرأها وترى من خلالِ خطوطها صورة الامير الشاعر وهو يخط هذه الكلمات التي ربما تجاوزت في الوصف والحب والعشق عبله وليلى ، فقد كان البوح باسم ليلى صريحًا دون تورية او التواء كما باحت به قصيدته الشهيره " تلفتت ظبية الوادي "
وكان ندائه لليلى مباشرًا حينما قال؛
ليلى تردّدُ فى سمعى وفى خلدي
كما تردّدُ فى الإيـــك الأغاريدُ
ولحسن تذوقها الادبي الرفيع شعرت الانسة ام كلثوم بالذهول غير مصدقة انها هي التي يقصدها وليس الكاس ولا الشراب الذي خاطبها بهما ومن خلالهما ، فتحلق بها الكلمات التي تُذيبُ الصخر بِرِقَّتِها وهو ينشدها :
باتَتْ على الرَّوضِ تَسقيني بصافيةٍ
لا للسُلافِ ولا للوَرْدِ رَيَّاها
ما ضَرَ لو جَعَلَتْ كأسي مَراشِفها
ولو سَقَتني بصافٍ من حُمَيَّاها
هيفاء كالبان يلتف النسيم بها
وينثنى فيه تحت الوشى عِطفاها
حمامةُ الأيك من بالشجو طارحها
ومَن وراءَ الدجى بالشوق ناجاها
هي العبقريات التي تاخذ بيد المتميزين والمبدعين وتشد على ايديهم وتفتح لهم الأبواب والآفاق لمزيد من الابداع والعطاء ، فكانت الانسة خير من قام بترجمة هذا واقعاً لا بالخيال، وكانت الانطلاقة التي اوصلتها الى ما وصلت اليه حيث تجاوز ابداعها العالم العربي ووصل الى العالمية بكامل الحسن والاناقة والجمال .
ادركت بفطنتها ان بين يديها كلمات ليست كالكلمات ولا رسالة ككل الرسائل خبأتها بين اعزّ ما تملك في خزانتها ، وما زالت على هذا الحال من التيه بين كلمات واحرف هذه الرسالة لمخبئة الى ان جائها ذلك الصديق العبقري المُقَرَّب ، الموسيقي المُبهر الذي جعل من الاطلال ، وحديث الروح ، واراك عصي الدمع ، وسلوا قلبي ، وولد الهدى ، وحسيبك للزمن ، وشمس الأصيل ، وثورة الشك ، واروح لمين ، جعل هذه القصائد تتربع على قمة الذائقة الفنية العربية بكامل اركانها ، كلمة ولحنًا وصوتا ، " وما زالت "،
انه الموسيقي العبقري الاستاذ رياض السنباطي ، فَعَرَضَت عليه الرسالة وقصَّت عليه احداثها كاملة ورأى مشهد الذهول الذي عاشته ولم تزل بادية على مُحيَّاها كما يقول ، فاكمل المشهد والبسه حُلة من النَغَم المُغنَّى الذي يُشَنِّفُُ الاذان وتتمايل له الرؤوس طربًا كما طَرِبَ لها امير الشعراء وما زال المستمع يردد معها ابياتها التي تقول :
وعادها الشوق للأَحباب فانبعثت
تبكي وتهتف أحيانا بشكواها
يا جارة الأيك أيام الهوى ذهبت
كالحلم آها لآيام الهوى آها
ما أحوجنا هذه الايام الى عبقري او مبدع يُشغِلُنا بسماع لا اقول اشعار تحاكي معلقات العرب كما ابدع فيها احمد شوقي.ولا اقول الى نغم تتمايل له الرؤوس نشوةً وطربا كما كلُّ انغام السنباطي ، إنَّما الى ما يشبه
بعضاً من روعة هذه القصيدة المُغَنَّاة
" سلوا كؤوس الطلا " .
يوسف رجا الرفاعي