09-05-2021 09:25 AM
سرايا - (كاتبة وأكاديمية أردنية)
«واالله أن أهجى بالعربيّة أحبّ إليّ من أن أمدح بالفارسيّة»
البيروني
عندما نتحدّث عن قانون حماية اللغة العربيّة بكلّ الصيغ المتقاربة التي باتت الدول
العربية تحسِنُ صنعاً بإقرارها عبر مؤسساتها المختلفة؛ علينا أن نستذكر أمراً مهمّاً،
وهو أنَّنا نتحدّث عن اللغة التي نتفاهم بها في جبالنا وسهولنا وبوادينا ومدننا وقُرانا
وسواحلنا، وهي اللغة التي نفكّر بها في يقظتنا، وتراودنا كلماتها في أحلامنا، وهي
اللغة التي نقرأ بها ذاتنا وتاريخنا وتراثنا، وهي اللغة التي نحتمي بها، ونفتخر بها عندما
نمتدّ على مسافة أربعة عشر مليون كيلو متر مربّع في العالم العربيّ، فنشعر أنَّنا أُمة
عظيمة كبيرة، مآثرها علينا وعلى الإنسانيّة كلّها لا تعدّ ولا تحصى، بدليل هذه اللغة
الشاسعة المترامية الكلمات، وهي اللغة التي ندعو االله بها، ونصلّي بها، ونقرأ القرآن
الكريم بها، وهي الهبة الأثيرة التي لا يمكن لأحد أن يقلّدها، أو يسرق منّا تميّزنا بها؛ لأنَّها
في النهاية صورتنا وصوتنا، ووجهنا وواجهتنا.
لقد سبقتنا بعض الأمم المتحضّرة إلى وضع قانون لحماية لغتها؛ ليس لأنَّ اللغة في حالة
حرب مع لغة أخرى، ولا لأنَّ اللغة في حالة انهزام وتضاؤل، أو احتضار وتلاشٍ، بل لأنَّ اللغة
في حاجة إلى مطاعيم حديثة، تكسبها مناعة وقوّة وصِحة؛ لتبقى فينا ما حيينا، ولتبقى
لأبنائنا هدية الأجداد للأحفاد.
إنَّ اللغة العربيّة في هذا العصر أحوج ما تكون إلى هذا القانون بسبب اقتراب اللغات
بعضها من بعض حدّ التداخل الذي تضيع فيه معالم هويتنا، فنخسر ذاتنا من غير
احتراب؛ لهذا ينبغي المعاجلة في تعميم قوانين حماية اللغة العربيّة لتكون حاضرة في
كلّ الدول الناطقة باللسان العربيّ المبين، ثم الانتقال إلى ما هو أهمّ من إقرار هذه
القوانين بصورها المختلفة إلى مرحلة التفعيل والإنزال على أرض الواقع. ولعلّ الحديث
عن تفعيل قانون حماية اللغة العربية وتنفيذه صار سؤال الحالة اللغويّة الراهنة في
العالم العربيّ، وهو حديث ذو شجون؛ لأنَّه كالبحث عن المخرج في الظلام، وما ذلك إلا لأنَّ
التفكير بتحويل القانون إلى سُلطة هو الذي يسيطر على عقلية الكثيرين منّا، مع أنَّ
تفعيل هذا القانون يحتاج إلى تحويله إلى حالة اقتناع شعبي ووطني عند كلّ فئات
الشعب العربيّ حتى يصبح كلّ متكلّم بهذه اللغة حارساً لها، ومؤمناً بها، وهذا
يستدعي ما يشبه الحملات الإعلاميّة الإعلانيّة الدعائيّة التي تسعى إلى نشر الشيء
الجديد، فكيف إن كان هذا الشيء أقرب إلينا ممّا نظنّ؟
إن قانون حماية اللغة العربية لا يحتاج بالضرورة إلى سلطة تحميه، وتعاقب مَن يتجرأ على
انتهاك حدوده أو تهديد وجوده، بل هو بحاجة إلى عُشّاق له وللغة العربيّة، يدافعون عن
عشقهم للغتهم بالتقيد بها، وبالالتزام بها صافية مقطّرة نقيّة سلسة عذْبة حديثة
متطورة مقنعة مثقّفة قادرة على ترجمة مشاعر عشّاقها وأفكارهم بجمل لا يجدون في
بنائها سدوداً من القواعد اللغويّة غير المعاصرة؛ لهذا ينبغي على أهل اللغة، ومجامع
اللغة، ودارسي اللغة، ومحبي اللغة من الشعراء والأدباء والكُتّاب وغيرهم البحث في
كيفية تحديث الخطاب باللغة العربيّة من غير أن تفقد ثوابتها، ومن غير أن تتجمّد على
ذاتها.
إنّ هذه المهمة العظيمة تجعل من علماء اللغة العربيّة على اتفاقهم وافتراقهم
مطالَبين بأن يقدموا لأبنائهم وللأجيال المعاصرة والقادمة صيغاً تعليميّة حديثة من
اللغة العربيّة، تجعل منها معشوقة جميلة للجيل القادم إلى عالم متشابك اللغات حتى
لا يبحث ذلك الجيل عن لغة تقنعه، أو يبتدع لغة وتغويه وتستهويه وتعبّر عنه وفق رؤياه
كما الحال في ما يسمّى الآن: «لغة الدواوين»، و"لغة الأرابيزي» اللتين صارتا مطلباً لمتعلمّي
العربية من الناطقين بغيرها بوصفها السياق الحقيقي للنسق التواصلي في المجتمع
العربي.
ويستظهر تفعيلُ قانون حماية اللغة العربيّة بصيرةً حذقة كيّسة فطنة تبرز في إعادة
صوغ المشهد الثقافي بما يليق بهويّتنا من غير تشدّق أو تقعير، ولعلّ هذا المطلب
الذي يبدو عسيراً رؤيةً يسيرٌ تطبيقاً، يظهر في وعي سدَنة العربية، والغيارى على
تمكينها، عبر تفعيلها في الاحتياجات العملية والعلمية الحميمة، كأن تستثمر في
المسلسلات والبرامج التلفزيونية والإذاعية للكبار وللصغار، أو بندوات ثقافية متفاوتة على
وفق الفئة العمرية التي أنى كانت فإنها تشجع على الحوار، ولا سيما المرتجل، وفي
موضوع يراعي سياق الحال والمقام فيتوسل بكلمات معاصرة يفهمها العربيّ من أقصى
البحر إلى أقصى البحر.
ويفعّل قانون حماية العربية في قصيدة كقصيدة (موطني) لإبراهيم طوقان يردّد
كلماتها الناس في مشرق الوطن العربي ومغربه، وفي كتابة (الآرمات) علّة المحالّ التجارية
بلغة لا هوية لها، وفي قطاع السياحة في لائحة وجبات الطعام، وفي التعابير الحياتية
اليوم؛ كالتحايا، وألفاظ الدعاءـ وعبر تعليم أساليب العربية التي تشيع استعمالاً والنأي
عمّا يرهق المتعلم من أبواب قلّ استخدامها، واستثمار نسبة التوزيع الكمّي التي غيّرت
الكثير في أحكام العرب علّة النادر والقليل والشاذّ. ولا شكّ في دور المشرفين على
المناهج التعليميّة للّغة العربية التي يرى واضعوها أنَّها تقدّم للدارسين لغة حاضرة
أمامهم، قادرة على الغوص عبرها إلى تاريخهم القديم، والانتقال بهم إلى أحلامهم
البعيدة من غير أن يبقوا فريسة للخوف من ضمة لا تحنو عليهم، أو كسرة تشلّ لسانهم،
أو فتحة تغلق أفقهم، أو سكون يخيم على أحلامهم.
ولعليّ أبادر فأقول: انظروا إلى لغة الصحافة، واسمعوا لغة نشرات الأخبار لتعرفوا أنَّ لغة
الإعلام العربيّ تمثل لغة عربية حديثة معاصرة، ولا تنتظروا أن نعلن أن تعلن الحكومات
عن التواصل بلغات بائدة، فلكلّ زمان لغته التي تنزاح قليلاً عن أصلها، وهذا من سنن
العربية، ولا تنتظروا أن تعلن عن تشكيل محاكم لغوية تعاقب من يغفو فلا يضبط ما
يقول، أو يهفو فيخطئ في كتابة ما ينبغي أن يقول، بل انتظروا أن يصبح في داخل كلّ
منّا حارس يحرس اللغة العربية؛ لأنَّه يحبّها، ولا يستصعب دراستَها أو تدريسها، ولأنه
مقتنع بها وطناً ليس لنا سواه، وأنّ ضعفنا السياسيّ والعسكري لن يكونا حجرَ عثرة
يردّنا إلى الوراء أزماناً.
يقول عبد السلام المسدّي في كتابه «العرب والانتحار اللغوي": «قد اختلف الزمن، فلا شيء
يكرّر نفسه، كيف لا وللمعنى أزمنة، بها تتعدّد الدلالة فتتنوّع وتتكاثر، ولا يكون فيها ما
يطابق من الأول آخره: زمن النشأة، إذ تتخلّق الفكرة، وزمن الكتابة، حين يتحقّق الفضاء،
وزمن القراءة ثم زمن المحاورة أو المجادلة، وخلل جيل أن نتغافل عن تراتب الأزمنة في
تضاعيف الوعي بها يكمن جوهر الإدراك ومغزى التأويل، وعليهما تترتيب علاقة الفكر
بالوجود».
وما قوله هذه القولة المعلَنة والمضمَرة في الوقت نفسه إلّا صيحة في آذاننا تدعونا
للمصالحة مع لغتنا لنتصالح مع أنفسنا.