17-05-2021 10:21 AM
بقلم : سِراج محمد الحربي
تتوقف مخيلة الفلسطيني عند حدّ مثلها مثل جريان النهر وطبيعة البحر.. بين مدّ وجزر.. لكن الماء هو الباقي، وقدرة الفلسطيني على الجريان هي الباقية، إنه يفكر وهو يجري، يأكل وهو يجري، يكتب وهو يجري مثل حصان لا يعرف، وإذا نَزَّ منه العرق.. جففه بالصهيل.
في الانتفاضتين الثمانينية والتسعينية توصّل الفلسطيني إلى قوة الحجر ورمزيته وتحويله من مادة جامدة إلى معنى ونشيد، ثم اكتشف أن أجداده صنعوا المقلاع، وقبل ذلك جعل من خيمته الشادرية الجافة ذات الحبال والأعمدة مطابقاً مادياً ومعنوياً لبيته الذي خرج منه في العام 1948، ثم في العام 1967.. لم تتغير الخيمة لكن الفلسطيني تغير.. عرف أن الفرق بين العامين نحو ثلاثة عقود، وليس ثلاثة أيام، ففي عام الهجرة الأولى 1948 كان الفلسطيني يظنّ أنه إذا خرج من بيته يوم السبت، فإنه سيعود إليه ليلة الاثنين، ولكن «الحسبة» لم تكن كذلك أبداً. عليه إذاً أن ينتظر الكثير من الوقت في المخيم وفي المطار وفي الميناء، ولكي يقطع الوقت أو الوقت يقطعه اخترع أمكنة مجازية له في الشعر مثلاً، فصارت فلسطين قصيدة، وصار المهاجر رواية، والعائلة لوحة تشكيلية، ولكي تتمسك هذه العائلة بالوطن أكثر من اللازم عليها أن تأكل الزيت والزيتون والزعتر حتى في اللوحة.
.. لا تتوقف مخيلة الفلسطيني عن الجريان.. كان حوّل الخيط والإبرة والحرير إلى تطريز، وعندما حقن «الإسرائيلي» أوردة الفلاحات الفلسطينيات بمصل يجهض الحامل منهنّ، تبين له أنه يمتلك من الخصوبة الطبيعية ما يجعله من بين أكثر الشعوب إنجاباً للأطفال، وبخاصة الإناث اللواتي تحوّلن إلى أيقونات شقراء على رسم عهد التميمي.. وغيرها من شعاعات نسائية كان ناجي العلي قد احترمها في رسوماته، وناجي العلي الذي رسم السياسي الفلسطيني المتخاذل والمهرول بدنياً مترهلاً بربطة عنق تكاد تخنق رقبته لفرط سمنته التي لا تتناسب ولو طردياً أو عكسياً مع نحول الفتاة الفلسطينية الفقيرة في المخيم وفي المدينة وفي القرية.. كان رسم المرأة بشكل خاص في أجمل صورة لها.. صورة دمعة المرأة الحلوة، مثلاً، في مخيم عين الحلوة.
مخيلة الفلسطيني مخيلة غنائية، يفاجئ أكثر مما هو مفاجأة ومثلاً.. بعد الحجر والمقلاع، يقترح المرايا والكوشوك. ربما المرآة لكي يرى «الإسرائيلي» صورته المتمادية في صناعة الموت، وربما الكوشوك لكي «ينفق» «الإسرائيلي» من رائحة الغبار الإسفلتي الداكن.
في كل الأحوال أيضاً، لا يتوقف الفلسطيني عن ثقافة القربان.. إن تراجيديته ليست رواية، بل، هي حياة، وفي الحياة موت وحياة.. وهو يقول دائماً إن على هذه الأرض ما يستحق الحياة.. والاستحقاق قتلى وجرحى وأيتام وأرامل وبطولات صغيرة؛ لكنها بطولات أغلى وأثمن وأعلى من شغف السياسي الانتهازي بالبطولة المضمرة في سرّه العجيب، وفي بحثه المجنون عن سلطة محتلة مقتطعة من وطن محتل.
لا تتوقف روح الفلسطيني عن السفر في الماء واليابسة والغيوم.. مخلوق عجيب ومتفائل دائماً وشعري أيضاً.. يظن أنه سيحرر بلاده بالحجر والمقلاع والمرايا..
تستمر النكبة .. وتطول ... والحزن واحد , ولك المجد والخلود يا شعب الجباريين