31-05-2021 10:47 AM
بقلم : خالد طوالبة
يوم 21 أيلول من كل عام يحتفل العالم باليوم العالمي للتوعية من مرض الزهايمر الذي يعاني منه نحو 35 مليون شخص على مستوى العالم، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى 115 مليونا بحلول سنة 2050، بحسب تقديرات الجمعية الألمانية لهذا المرض.
لكن الكلام في أرقام المصابين بهذا المرض لا يكفي. وحدها الشهادات تتكلم عن واقعهم المأساوي ومعاناة الأحباء المحيطين بهم.
حفيظة سيدة في الثمانين من العمر، أصيبت منذ عامين بمرض الزهايمر ولم تعد تتذكر أولادها ولا أحفادها. وتخبر ابنتها بأن والدتها في البداية كانت تنسى بعض الأمور والأحداث القريبة لكن أبناءها لم يعيروا الأمر أهمية، إذ رأوا بأن ذلك طبيعي مع التقدم في السن. لكن حال النسيان بدأت تزداد شيئا فشيئا، حيث راحت تارة تخبئ الاغراض تحت سريرها وتارة ترمي أغراض المطبخ في سلة المهملات، وتخرج من المنزل في ساعات الليل المتأخرة من دون معرفة سبب الخروج لتجلس على الباب محاولة الهرب من شيء ما. وتطوّرت حالتها أكثر حين بدأ المرض يؤثر بشكل أكبر على قدراتها العقلية، الى أن سألت حفيظة عن والديها الذين توفيا منذ أكثر من ٤٠ عاما.
حفيظة كانت مبدعة في حياكة الصوف الى حد الاحتراف الا أنها بعد المرض وضعت ابنتها بعض الصوف أمامها وأخذت تنظر إليه لا تعلم ماذا تفعل..!
هذا الواقع أثار اهتمام إبنة حفيظة وانزعاجها أحياناً، إذ إن والدتها التي كانت تتميّز بذكائها وحكمتها ورزانتها على مستوى المجتمع حتى أصيبت بالـ[مرض اللعين]، وكانت تتساءل في قرارة نفسها: «كيف عليّ أن أتقبل هذا الواقع؟ هل سيطول الأمر بوالدتي؟» أسئلة كثيرة كانت تراود الابنة التي لم تتقبل مرض والدتها. وقد أعربت عن يأسها قائلة: «مرض أمي كسر لنا ظهرنا… فالسيدة الجبارة والقوية أضاعت ذاكرتها وأصبحت أحاديثها فارغة.»
ابناء حفيظة أهملوا منازلهم وعائلاتهم بسبب انشغالهم بوالدتهم. مرّت ابنة حفيظة بكثير من المشاكل، كما شعرت بالاكتئاب والقلق المستمر. وتشير الى أنها كانت دائما تحاول تهدئة نفسها ومعاملة والدتها برقة ولطف، لكن عبء المشكلة أصبح يفوق قدرتها على التحمّل. وتقول: «الأمر الوحيد الذي يصبّرني على تحمّل كل هذه الأوجاع النفسية والجسدية هو تضحيات أمي اللامتناهية في صغرنا وابتسامتها التي لا تفارق ذهني.» وتضيف: «الله يكون بعون كل مريض!»
الحاجة حلوة امرأة عزباء في الثمانين من العمر، أصيبت بهذا المرض منذ 5 أعوام، حيث كانت تقطن في منزل شقيقتها المتزوجة والأم لثلاثة أولاد في أواخر العقد الثاني من عمرهم. كان النسيان أول أعراض هذا المرض بالنسبة إليها. فغالبا ما كانت تنسى الجيران والأقارب وترفض استقبالهم في المنزل. وعلى رغم ذلك كانت تلقى الرعاية اللازمة من أختها وأولادها الذين أولوا خالتهم كل الحب والاحترام. بقيت تصرفات الخالة مضحكة من حين لآخر، حيث كانت تخزّن الطعام في غرفة النوم وتوضّب الصحون تحت سريرها، وتتحدث عن مغامرات الصبا وكأن هذه الحكايات جرت معها منذ أيام قليلة. كانت تصرفاتها مسلية يقول أولاد أختها، فتسألهم تارةً عن موعد الحصاد وتوبّخهم تارة أخرى كونهم أغراب عنها ويدخلون المنزل خلسةً.
تستحضر الخالة الحكايات القديمة، فالماضي هو حاضرها، والحاضر مجرد وهم ليس له وجود حتى لو حاول أحدهم الحديث عنه. تسألك في الجلسة السؤال نفسه كل خمس دقائق، أسئلة من قبيل: «ماذا يفعل هؤلاء الشباب في بيتي؟» تجيبها أختها بأنهم أولادها فتفرح حلوة وتقبلهم وتتحدث معهم. وبعد خمس دقائق تكرر السؤال وتتهم الشباب بأنهم سرقوها وحاولوا خطفها. وتسأل مجدّداً: «ماذا يفعلون هنا؟ أبعدوهم عن المنزل!» فالنسيان أكل عقلها، حتى باتت تكرر الحكاية نفسها كل خمس دقائق وبالتفاصيل ذاتها، لدرجة أنك ستعتقد هذه الاحاديث مسجلة.
قصصها مضحكة أحيانا لكنها أيضا مؤلمة كونها بحاجة لرعاية دائمة وللانتباه الكامل. تمر حلوة في بعض الاحيان بلحظات غريبة، كأن تبكي وتسأل لماذا أفعل هذه الأمور، لكن بعد بضع دقائق تعود الى حالتها المرضية السابقة. وضعها كان حساسًا جدا إذ تفاقمت حالتها وأصبحت تقضي حاجاتها في كلّ مكان وأينما وجدت، ما سبَّب الإحراج لأهل المنزل خصوصا وأنهم شباب في أول عمرهم يشعرون بالخجل عندما يقصدهم أصدقاؤهم ويرون حالة خالتهم. هذا الأمر دفع الشباب لاصطحاب خالتهم الى مأوى عجزة حيث ستلقى الرعاية المناسبة، ويقولون: «حرام تنترك لحالها ونحنا بالنهار بالشغل وإمي صحتها على قدّها». لكن في نهاية الأسبوع يقومون بزيارتها ويصطحبونها الى المنزل لتمضية يومين برفقتهم ومن ثم تعود الى دار العجزة حيث تمكث باقي الأيام.
واختتم الشباب حديثهم قائلين: «كلّ مريض بالزهايمر بحاجة الى رعاية واهتمام وبال طويل لأنه يفقد السيطرة على تصرفاته، ويكون النسيان سيّد الموقف.»
رؤية شخص عزيز على قلبك يفقد القدرة على الإعتناء بنفسه أو التحكم في تبوله أو التعرف الى أبنائه وأحفاده أمر قاس جدا. لكن الأكثر قساوة من ذلك هو درجة الصبر وكيفية التعامل مع المريض، خصوصاً في غياب حلول طبيّة ناجعة لمثل هذه الحالات.
حبّ الأم والأب والأجداد لا يقتصر على الزيارات. فهو مسيرة عطاء وتضحية، إنها مهمة تتطلب منا بذل الوقت والبحث عن طرق لنجعل أيامهم سعيدة. وحتّى لو أصابهم «الخرف» علينا ألّا ننسى عطاءاتهم وعواطفهم عندما كانوا بكامل صحتهم وأننا قد نصبح يوما ما مثلهم!