28-07-2021 12:36 PM
سرايا - خمسة أيام في العاصمة الامريكية واشنطن، تخللتها لقاءات عديدة، لم تطرح فيها جميعها قضية الفتنة، ولم يكن هناك أي حديث عن هذا الأمر كسؤال أو استفهام، رغم أن أعضاء الكونجرس بشقية الشيوخ والنواب، لم يتركوا شيئًا إلا وتحدثوا مع جلالة الملك فيه.
الغياب اللافت لعدم طرح قضية الفتنة في واشنطن، التي شهدت خلالها قمة «أردنية - امريكية» في البيت الأبيض، تلاها سلسلة لقاءات ملكية مع أركان الإدارة الأمريكية، ثم لقاءات مع عدد من لجان مجلس الشيوخ وقياداته، ثم في مجلس النواب مرورًا بمراكز الدراسات، له ما يفسّره ويُبدّد غيوم التساؤل عن سبب عدم الحديث في القضية:
أولاً: سياق القضية التي أكد فيها الأردن، منذ اللحظة الأولى للقبض على أطرافها، «أن التحقيقات مستمرة، وسيتم الكشف عن نتائجها بكل شفافية ووضوح، وأن كل الإجراءات التي اتخذت تمت في إطار القانون، وبعد تحقيقات حثيثة استدعتها، مثلما أن لا أحد فوق القانون، وأن أمن الأردن واستقراره يتقدّم على أي اعتبار».
ثانيًاا: ضمانات المحاكمة العادلة، حيث إن الأطراف المتورطة في القضية، قامت بتعيين محامين لها ومقابلتهم، والدفاع عنهم أمام العدالة، بكل وضوح وشفافية، ودون خدش أي مسار من مسارات القضية، التزامًا بسيادة القانون وضمانات المحاكمة العادلة، وفقًا لأحكام القانون الأردني.. وظهور المتهمَين باسم عوض الله والشريف حسن بالبدلة الزرقاء، دحض مزاعم المحامي الأمريكي، أن باسم تعرّض للتعذيب وإساءة المعاملة.. رغم أنه،أي المحامي الأمريكي، لم يقابل موكله أو يتحدث معه.
ثالثًا: التعامل الهادئ والرزين مع مجريات القضية وملابساتها وتفاصيلها، ونُشير لحديث جلالة الملك لمجموعة من الشخصيات قائلا: «ما جرى كان مؤلما، ليس لأنه كان هناك خطر مباشر على البلد، فالفتنة كما تحدثت أوقفناها، لكن لو لم تتوقف من بدايتها، كان من الممكن أن تأخذ البلد باتجاهات صعبة، لا سمح الله، من البداية قررت أن نتعامل مع الموضوع بهدوء، وأنتم بصورة ما حصل، وكيف خرجت الأمور عن هذا السياق».
لقد تعرّض الأردن عبر تاريخه، سيما خلال الفترة القريبة الماضية، إلى تحديات كبيرة ومتعددة، وشاركت فيها أطراف إقليمية، لكن سياسة الملك بالتطلع للأمام دائمًا، دعت الأردن لعدم الخوض بالتفاصيل في غمار قضية الفتنة، كما أشار الملك في مقابلته مع «السي إن إن» بأن أطراف القضية سربوا فيديوهات وتسجيلات لمسؤولين أردنيين حول القضية، وإلا لما تم الحديث عن القضية علنًا.
رابعًا: التعامل مع هذا الملف كشأن داخلي محلي، فرغم أن المتهم عوض الله يحمل جنسيتين (أمريكية وسعودية)، بالإضافة إلى الجنسية الأردنية، إلا أن الموضوع جرى التعامل معه كملف محلي داخلي، بما يؤكد أن القانون الأردني هو صاحب الكلمة الفصل في القضية، وترسيخًا لمبدأ دولة المؤسسات والقانون.
كما يؤكد ذلك أن عدم تطرق الغالبية العظمى في الإدارة الأمريكية، ممن التقى بهم الملك، إلى الملف باعتباره شأنًا داخليًا، محترمين بذلك الأردن، ومؤكدين في ذات الوقت على الوقوف إلى جانب الأردن دائمًا، وبكل قوة، دون النظر إلى تفاصيل هامشية، وأن لا مساسَ بسيادة الأردن، وذلك ردٌّ مبطن أيضًا، وينسحب على ما تم تداوله من بعض الأصوات الرديئة، بأن الأردن أصبح ثكنة عسكرية أمريكية، نتيجة توقيع اتفاقية التعاون العسكري مع أمريكا، رغم أن هذا التعاون يبقى تحت ظل القيادة العسكرية الأردنية، بعكس ما نراه في دول أخرى.
خامسًا: الصفح الملكي، حيث دعا جلالة الملك عبدالله الثاني، المسؤولين المعنيين إلى اتباع الآلية القانونية المناسبة، ليكون «كل واحد من أهلنا اندفع وتم تضليله وأخطأ، أو انجر وراء هذه الفتنة، عند أهله بأسرع وقت» في رد جلالة الملك على مناشدة عدد من الشخصيات من عدة محافظات، الصفح عن أبنائهم الذين انقادوا وراء هذه الفتنة، التي وئدت في بداياتها، بعد أن رفعوا عريضة لجلالته موقعةً من شخصيات عشائرية، مستذكرين قيم الهاشميين في التسامح والعفو، حيث قال جلالته: «كأب وأخ لكل الأردنيين، وبهذا الشهر الفضيل، شهر التسامح والتراحم، الذي نريد فيه جميعًا أن نكون محاطين بعائلاتنا، أطلب من الإخوان المعنيين النظر في الآلية المناسبة، ليكون كل واحد من أهلنا، اندفع وتم تضليله وأخطأ أو انجر وراء هذه الفتنة، عند أهله بأسرع وقت».
فالأردن قوي وكبير عبر تاريخه، حيث تجاوز الملك الراحل والمعلم ( الحسين طيب الله ثراه )، تحديات إقليمية ضخمة، واجهها وحده وبعزيمة وقوة مؤسساته، والآن يتكرر ذات السيناريو مع جلالة الملك عبدالله الثاني، وتجاوز ذلك بحنكة وتسامح، ودفعه ذلك لعدم انتظار إصدار عفو خاص بأطراف القضية، حيث يتطلب ذلك إصدار أحكام عليها.
سادسًا: «بلدنا قوي، وثقتي بمؤسساتنا ليس لها حدود»، كما يقول الملك، فالعالم أجمع يدرك بأننا دولة ذات سيادة وتحترم مواطنيها، ودولة لديها قانون وتُعلي من قيم سيادة القانون وترسيخه.
على ما سبق، يدرك العالم أن الدولة الأردنية بكافة مؤسساتها، يقع عليها عبء مسؤولية تطبيق وإنفاذ سيادة القانون، بمساواة وعدالة ونزاهة، وأن التطبيق الدقيق لمواد القانون، يُعدّ من المتطلبات الضرورية لأي عملية تحول ديمقراطي ناجحة، فلا يمكن لدولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان، أن تعمل خارج هذا الإطار، وهو ما يؤمن به الأردن ويعمل على ترسيخه، بدلالة تشكيل اللجنة الملكية لتحديث منظومة الإصلاح السياسي.
تحدّث الملك، في مقابلة مع شبكة «سي إن إن» التي بُثت الأحد الماضي، في معرض رده على سؤال حول قضية الفتنة، أن بعض الشخصيات حاولت «استغلال» إحباط الأردنيين، لتنفيذ أجندتهم الخاصة، فقد حاولت الأطراف المتورطة بالقضية استغلال مخاوف الناس، بالذهاب نحو تنفيذ الفتنة كمخطط تآمري على الدولة والحكم، لكنها وئدت بوعي أجهزتنا الأمنية وحكمة قيادتنا السياسية.
الشهادة الثــانــيـــة
أردتُ نقل ما رأيتُ، وتقديمه للرأي العام الأردني، حيث شاهدتُ في دوائر الحكم، وصناعة القرار، في أهم دولة بالعالم، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، قيمة بلادي ومليكي وسمو ولي العهد.
فالأردن كبير بالملك وبالقيم الأردنية: السلام والاعتدال والوسطية، والمساواة والحرية والتعددية، والرحمة والتعاضد وقبول الآخر، والمثابرة والانفتاح والمواطنة الصالحة.
حاول البعض استغلال الأردنيين للوصول إلى أهداف خبيثة، ولكنهم فشلوا فشلاً ذريعًا، وجلالة الملك بحكمته وحنكته استطاع أن يسيطر على الموضوع ويمضي في التطلع للأمام .
على ما سبق؛ الأردن دولة قوية ثابتة راسخة، عمرها مئة عام، دولة عاشت مئة عام في ظل ظروف إقليمية، أقل ما توصف بأنها صعبة، وتم تجاوزها بحكمة وحنكة القيادة الهاشمية، ووعي الشعب الأردني الواحد، والذي يقف خلف جلالة الملك عبدالله الثاني بقوة.
قضية الفتنة الكريهة، دفعت الرأي العام الأردني للتشكيك بكل الطروحات الإصلاحية الرسمية، وهو ما ساهمت فيه أطراف كانوا سابقًا ذوي حظوة رسمية، لتشويه اللجنة الملكية لتحديث منظومة الإصلاح، بالإضافة إلى السوشال ميديا، التي سمحت لبعض المشككين المشوهين من الخارج، وعدد قليل من الداخل - يمكن تسميتهم تابعين- التشكيك بنوايا الإصلاح .
لهذا أؤكد بكل ما أملك من قناعة سياسية، أن التغيير والإصلاح قادم لا محالة، أضف على ذلك أن هناك من ربط الزيارة الملكية لواشنطن بموضوع الإصلاح السياسي، وكأننا دولة كرتونية هشة، متجاوزين حقيقة أننا نمارس ونطور مسيرتنا الإصلاحية السياسية، منذ مئة عام، وهو قرار أردني داخلي لم يتم الحديث أو الخوض فيه، كما هو الأمر بالنسبة لقضية الفتنة.
إن الدولة قادرة على التعامل مع هؤلاء المشككين المشوهين، من أصحاب الأجندات الضيقة المشبوهة، التي عادة ما تستغل إحباط الناس الساعين إلى تحسين معيشتهم، لتنفيذ أجنداتهم الخاصة، وذلك بالمراهنة على المعلومة الصحيحة وفي وقتها، ومن الجهة المعنية نفسها، وأيضًا بالابتعاد عن «نجوم السوشال ميديا»، وهي الوصفة التي يمكن لنا تجاوز أصواتهم القبيحة وتسريباتهم السوداء.
اليوم الأردن تجاوز قضية الفتنة، لكن لن ينساها، وهناك الأجهزة الأمنية -كما أشار جلالة الملك في المقابلة وفي كل مناسبة- تقف بالمرصاد لكل من تسول له نفسه القبيحة العبث أو التطاول على الأردن.
إننا اليوم نتطلع كدولة بقيادة ملكنا وسمو ولي العهد، لقيادة دور محوري جديد في الشرق الأوسط، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي، ولا يكترث لمهاترات ومراهقات سياسية هنا أو هناك.
مصطفى الريالات - الدستور