03-08-2021 08:31 AM
بقلم : داود عمر داود
من المعروف أن الرئيس الأمريكي جو بايدن كاثوليكي المذهب وينحدر من جذور إيرلندية، وهو ثاني رئيس كاثوليكي لأمريكا بعد جون كنيدي، قبل ستين عاماً.
والإيرلنديون الذين هاجروا من بلادهم بسبب الاستعمار البريطاني يشبهون إلى حد بعيد شعب فلسطين، فالشعبان يشتركان في كره المستعمرين الإنكليز الذين تسببوا بتشتهما في أصقاع الدنيا، وهما يحملان مظالهما جيلا بعد جيل، فما زال الفلسطيني أينما كان يخفق قلبه حنيناً لذكر فلسطين، وكذلك يخفق قلب الإيرلندي حنيناً لذكر إيرلندا، بمن في ذلك بايدن.
الشعر والسياسة
وخلال زيارة عاهل الأردن إلى البيت الأبيض، استهل بايدن حديثه مع الملك عبد الله الثاني قائلاً (العالم يتغير … وأنا دائماً أقتبس من الشعراء الإيرلنديين).
وأخذ بايدن يقرأ أبياتاً من الشعر تحمل معاني سياسية، من قصيدة وصفها بأنها شهيرة، لشاعر الثورة والاستقلال الإيرلندي (ويليم بتلر ييتس)، ترمز إلى التطلع بأمل إلى المستقبل عندما تكون هناك تغييرات تجري في العالم، مما أثار استغراب الوفد الأردني.
وتعود القصيدة إلى أكثر من مئة عام، حينما اندلع تمرد مسلح في 1916 ضد قوات الاستعمار البريطاني في إيرلندا.
وكانت النتيجة أن هُزم الثوار الإيرلنديون، وترتب على ذلك أن ضمت بريطانيا ستة أقاليم في إيرلندا الشمالية.
وكعادتهم، قام الإنكليز بإعدام قادة التمرد الذين كان من بينهم أصدقاءٌ للشاعر ييتس، فحزن كثيراً وكتب مجموعةً من قصائد الرثاء بعنوان (تأملات في زمن الحرب الأهلية) كان من ضمنها الأبيات التي اقتبسها بايدن والتي ترمز إلى التغلب على الهزيمة واستعادة الروح المعنوية، وتقول:-
(كل شيء تغير … تغير تماما … لقد ولد جمال رهيب … الكثير قد تغير … وهناك الكثير من الفرص … ولكن أيضا هناك الكثير من الصعوبات … الصعوبات التي سنضطر إلى شق طريقنا عبرها).
فلسطين في وجدان الإيرلنديين
ومعروف أن قضية فلسطين تحتل مكانة خاصة في نفوس الإيرلنديين منذ النكبة. فما إن صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين حتى اتخذ الإيرلنديون موقفاً سلبياً من اليهود، وشعروا أن وضعهم تحت الاستعمار البريطاني يشبه وضع الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي. وأصبحت نظرتهم إلى إسرائيل على أنها مستعمرة غير شرعية فرضتها بريطانيا بقوة السلاح على الفلسطينين. وقد عبر عن هذه المشاعر الروائي الإيرلندي المعروف (سين أوفلون) الذي قال آنذاك (لو تصورنا أن البريطانيين حولوا إيرلندا لتكون وطنا قوميا لليهود، فليس لدي أدنى شك في أي جانب سنكون).
وعليه فإن تعاطف الإيرلنديين القوي مع القضية الفلسطينية بدأ بقرار تقسيم فلسطين، عام 1947، وما زال. وأبرز مناصري فلسطين اليوم هي داعية السلام الإيرلندية مايريد ماغواير.
ترمز أبيات القصيدة التي قرأ منها بايدن إلى عدة معاني أبرزها حبه لوطنه الأصلي إيرلندا وحنينه واشتياقه إليه، وتعلقه بثقافة أجداده، وكيف أنها راسخة في عقله ووجدانه. فظهر وكأنه يتغنى بإيرلندا ويقتبس الحكمة من تراثها، وهو في ذلك مثله مثلُ أي مهاجر ايرلندي يعبر عما يجول في خاطره تجاه موطنه الأصلي، ومثل أي مهاجر فلسطيني يتغنى بقصائد شعراء ثوارت فلسطين المتعاقبة، من نوح إبراهيم، إلى توفيق زيّاد، وإلى محمود درويش وغيرهم.
رسائل بايدن
أما من ناحية سياسية فإن توظيف بايدن لقصيدة ثورية من تراثه الإيرلندي يُمكن أن يُفهم بأنه يبعث برسائل سياسية في إتجاهات مختلفة.
أولها نحو موطن أجداده إيرلندا، شمالها وجنوبها، وبأن حبه لها ليس له حدود.
والثاني إتجاه بريطانيا التي لها تاريخ دموي طويل في إيرلندا، وربما أراد هنا إعادة تأكيد الدعم الأمريكي المستمر والثابت للإيرلنديين، وهي التي كانت تمول ثوراتهم ضد الإنكليز.
وربما قصد بايدن أيضاً التعبير عن عدم إعجابه بالإنكليز لما فعلوه بشعبه الإيرلندي في أرض أجداده.
حل الدولتين
أما الإتجاه الثالث لرسائله فربما يشمل الفلسطينيين، خاصة في الجملة الأخيرة من أبيات الشعر، (… الصعوبات التي سنضطر إلى شق طريقنا عبرها …) فأراد أن يقول بأن إدارته مصممة على استئناف مفاوضات السلام، رغم توقفها منذ 2014، وأنه لا حل للقضية سوى (حل الدولتين)، الذي تسعى إليه الولايات المتحدة وأنه يأمل أن يتحقق ذلك في عهده.
وفي الإتجاه الرابع ربما يوجه رسالة العصا والجزرة إلى إسرائيل التي تمردت على أمريكا، وترفض حل الدولتين، وارتكبت بحقها خيانة كبرى حين طعنتها في الظهر وتخابرت مع الصين ونقلت إليها الأسرار التقنية والعلمية.
وربما أراد بايدن أن يقول لساسة إسرائيل أنهم إذا وجدوا إدارة ترامب قد تسامحت معهم فيما فعلوه بحق أمريكا فإن إدارته لن تتسامح معهم بعد اليوم فـ (كل شيء تغير)، وانه إذا عادت إسرائيل إلى رشدها، وإلى بيت الطاعة الأمريكي، فإن (هناك الكثير من الفرص) التي ستحافظ من خلالها على وجودها.
خصوم أمريكا
والاتجاه الخامس، من رسائل بايدن المبطنة، ربما يكون موجهاً إلى منافسي أمريكا وخصومها على حد سواء، بما فيهم بريطانيا وباقي أوروبا، والصين وروسيا، وغيرها من الدول الإقليمية الفاعلة، التي ترى أن إعادة التموضع الأمريكي على الساحة الدولية تعكس حالة من التراجع، جعلت قوىً عديدة تنهش في الجسد الأمريكي المثخن بالجراح، وتسعى لإقتناص الفرصة لتحقيق المكاسب على حسابه.
وهذا يقودنا إلى الرسالة السادسة والأخيرة التي ربما تكون موجهة للداخل الأمريكي، تشمل تعزيةً للذات على ما خلفته إدارة ترامب من خراب، وفي نفس الوقت تكون رسالة تطمين بأن (كل شيء تغير)، وذلك عطفا على شعار رفعه بايدن يوم تنصيبه أن (أمريكا قد عادت).
أن يلجأ رئيس أمريكي إلى توظيف الشعر ليبعث برسائل يكتنفها الغموض فهذا ما لم يحصل من قبل. وربما تعكس (معلقة بايدن!) حالة من الوهن والإحباط يعاني منها الرئيس والبلاد معاً. وإلا ما معنى الاختباء وراء عبارات شعرية يصعب إدراك معانيها، فيما كان من عادة ساكني البيت الأبيض أن يعبروا عما يجول في خواطرهم بوضوح وبدون مورابة وإلتفاف.
أين رسائل بايدن اليائسة من رسائل جون كنيدي التي كانت مفعمة بالحياة والتفاؤل؟ فهل هذه بداية نهاية الحُلم الأمريكي، الذي كان يعبر عنه كنيدي؟
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
03-08-2021 08:31 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |