12-08-2021 03:59 PM
بقلم : داود عمر داود
كان أول إستعمال لمصطح (الطابور الخامس) في ثلاثينيات القرن العشرين، خلال الحرب الأهلية الإسبانية، 1936-1939، التي قاتلت فيها قوات حكومة الجمهورية اليسارية ضد القوات الوطنية المتمردة، بقيادة الجنرال فرانسيسكو فرانكو. وعندما كان المتمردون يزحفون شمالاً بإتجاه مدريد أعلن قائد الحملة الجنرال (إميليوم مولا) بأن قواته توزعت على أربعة طوابير من الثوار يساندها طابورٌ خامس يعمل لصالحها في الخفاء داخل العاصمة.
ومنذ ذلك الحين راج استعمال مصطلح (الطابور الخامس) في الحروب وأصبح يعني ضرباً من ضروب الخيانة والعمالة والنفاق والحرب النفسية، التي يمارسها العملاء لصالح العدو المتربص بالبلد. وهؤلاء العملاء يعملون سراً وعلناً في إثارة الرعب والفزع، ويشيعون الفوضى، ويبثون الشائعات لتثبيط الهمم والعزائم والمعنويات، ويتجسسون، ويضللون الناس، والأخطر أنهم يقومون بأعمال تخريب، تُفضي إلى زعزعة الأوضاع، فتدب الخلافات، ويضعُف التماسك، مما يجعل إسقاط النظام من الداخل أمراً أكثر سهولة.
موسم حرائق الغابات:
تنشأ الحرائق البرية، أو حرائق الغابات، عادة بفعل إلهي في فصل الصيف، تصاحبها عدة عوامل جوية أبرزها ارتفاع درجات الحرارة. وهي حرائق يصعُب إخمادها أو السيطرة عليها، وتؤدي إلى إلحاق الدمار بالانسان والمكان، وخسارة اقتصادية بفقدان الأخشاب، وخسارة بيئية بالتصحر، وتدمير المناطق السكنية المجاورة. وقد حدثت اكبر حرائق الغابات عام 2020 في استراليا، حيث أتت النيران على أكثر من 107 الاف كيلومتر مربع، مما أدى إلى دمارِ حوالي ستة آلاف مبنى، وقتلِ عدد قليل من الناس، ونفوقِ مليار من الحيوانات المتنوعة. وبالاضافة الى الجهود المحلية، شاركت في الإطفاء فرق من نيوزلندا وكندا والولايات المتحدة. وفي عام 2017 تسببت حرائق الغابات في ولاية كاليفورنيا الأمريكية في تدمير ستة الاف مبنى، وتهجير 100 ألفٍ من السكان، واجتاحت النيران 850 كيلو متراً مربعاً.
هل حرائق تركيا مدبرة؟:
وعليه فإن البلدان المختلفة تتعرض لهذا النوع من الكوارث الطبيعية، وتحاول استيعاب الصدمة وتجاوز الكارثة. هذا في حال حدثت الحرائق بفعل رباني. أما في حالة تركيا فكان اندلاع الحرائق متزامناً ومدبراً، وتمت بفعل فاعل، في غابة تلو الاخرى، في أرجاء البلاد، صاحبتها هجمة سياسية وإعلامية من الطابور الخامس المدعوم من الخارج. فقد أعلنت جماعة تسمي نفسها (أبناء النار) مسؤليتها عن إشعال حرائق الغابات. وهي جماعة مرتبطة بحزب العمال الكردستاني الانفصالي المحظور، الذي يقود تمرداً مسلحاً ضد الدولة. وذكرت الجماعة في إعلانها أنها قررت تركيع النظام التركي بالنار. وكان ناطق باسم الحزب قد كشف، من قبل، عن النية بإشعال حرائق في الغابات.
بحيرات الإطفاء:
ورغم أن تركيا كانت مستعدة لمثل هذه الحرائق التي تحدث سنوياً بوتيرة إعتيادية، إلا أنها فؤجئت هذا العام بإشتعال مئتي حريق في وقت واحد، في 44 ولاية معاً، من أصل 81 ولاية. وكان من بين الاستعدادات لهذه الحرائق الموسمية أن أنشأت السلطات، قبل سنوات، 4150 بحيرة وبركة إصطناعية، منتشرة بين الغابات في 26 ولاية. وهي تزود بالماء الطائرات المروحية المخصصة لمهمات الإطفاء، فتقوم المروحيات بسحب كميات المياه، وهي في الجو، ثم تصبها على الحرائق خلال دقائق وتعود، يساعد على ذلك قرب هذه الاحواض المائية من الغابات. ويوجد في ولاية أنطاليا لوحدها، وهي الأكثر تضرراَ، 455 بركة إطفاء، تليها ولاية موغلا. أما إزمير فتضم 164 بحيرة إصطناعية. ويُظهر هذا مدى جاهزية السلطات للتعامل مع عدد كبير من الحرائق لو لم تكن مدبرة. ومع ذلك خرج الطابور الخامس ليقول أن الحكومة لم مستعدة لمكافحة الحرائق.
تساقط الأمطار:
وقد تساقطت الأمطار بغزارة في 65 ولاية تركية، بعد أسبوعٍ من بدء إندلاع الحرائق، وسط انخفاضٍ في درجات الحرارة. وساعدت الإمطار في السيطرة على الحرائق وتخفيف وطأتها، وكأنها جاءت استجابة للدعوات والتكبيرات التي صدرت من مآذن المساجد. وقد احتفل الناس بنعمة المطر.
ويرى الخبراء أن هناك نواحٍ ايجابية في الحرائق الموسمية، ويعتبرونها بمثابة إعادة ضبط لدورة الحياة، خاصة إذا تبعها هطول الأمطار، كما حصل في تركيا، حيث تتجدد الحياة في الغابات المحترقة، ويتاح للنباتات ان تنمو من جديد من تحت الرماد، وتَنبتُ البذورُ المخزنة في تربة الغابة، وتبدأ براعم الأشجار المحترقة في إنبات أغصانٍ جديدة، كما حدث في غابات استراليا بعد الحرائق.
خلاصة القول: التعامل مع الطابور الخامس:
رغم استعداد تركيا المسبق، ونجاحها في التعامل مع الكوارث، والسيطرة على الحرائق الأخيرة في الغابات، إلا أن الملفت للنظر أنها تظل تتعرض على الدوام لحملات داخلية وخارجية، بمناسبة وبدون مناسبة، وكأنها في حالة حرب مستمرة. فهي تتلقى ضربات قوية، وضغوطات شديدة، وتكون هدفاً لمؤامرات لا تتوقف، على الصعيد الاقتصادي، والسياسي، والدبلوماسي، والفكري، وغير ذلك. فهل تقتضي الظروف تغيير تعاملها مع الطابور الخامس كي تنجو من دسائس ومؤامرت وخيانة منافقي العصر؟