04-09-2021 09:13 AM
بقلم : حمد عليمات
بسرعة...بسرعة...يا " خيتي " يا أم علي طمنيني بالله عليكِ ،"يا زلمة توكل على الله بعون الله غير تتيسر الأمور...بس يا " خوي يا أبو محمد خذ الصغار من ورا الباب و خليهم يناموا بالغرفة الثانية عندك ، ولمّا أطلب المية الساخنة تكون جاهزة ". قالت أم علي لوالدي بصوتها الحادّ الخشن كما سمعته فيما بعد .
دعوني أرسم لكم بهذا السيناريو الّذي لطالما تخيلت وقوعه قبل ميلادي بعشر دقائق أوقبل أن يبدأ قلبي الصغير بأول عملية شهيق أو زفير له...الحقيقة أنّني كباقي أقراني في ذلك الوقت وُلدنا في بيوتٍ طينية قديمة في قرى بعيدة على يد " الداية "ففي مدينة المفرق لم يكن سوى مستشفى واحد فقط ناهيك عن قلة عدد السيارات في القرية فربما مرّ يومٌ أو يومان في قريتنا حتى نرى قطعة خردة تشبه السيارة فأركض خلفها برفقة الصبية ونحن نطرق على علبة حديد فارغة كُتب عليها كلمة ( KLIM ) وكأنّها طبلٌ حقيقي .
في ليلة شتاء شديدة البرودة والقسوة من ليالي شهر شباط في آخر عام من سبعينيات القرن الماضي زفّت" الداية " أم علي خبر ولادتي للحاضرين مثل خبر عاجل على قناة الجزيرة ، وبعد عناء طويل مع الألم والأمل مع المخاض ومع أوجاع الولادة ومع مرارتها وحلاوتها نامت والدتي الغالية الحبيبة بعد أن سالت أنهار العرق الحارّ من أعلى رأسها مرورًا بخدها الوردي إلى وسادتها التي ارتوت من دموعها الغالية ومن حبات العرق الطاهر وبعد أن أرسلتني من بطنها ومن عالمي الصغير,..أرسلتني طفلًا مكتمل الأعضاء بحسب التقرير الطبي الشفوي الصادر من أم بعد أن أنجزت المهمة.
كانت "النملية " وهي خزانة مصنوعة من الخشب التي ادخرت فيها والدتي الحنونة بعض البسكويت وبعض "الراحة " نوع من الحلوى والقرفة من أجل تقديم التحلية للمهنئين بولادتي كانت تلك النملية تحتوي على بعض من الملابس القطنية المعدّة خصيصًا لاستقبالي كما كانت تحتوي على قطع من " الخروق " والخروق قطع من القماش بمثابة البامبرز هذه الأيام مع فارق بسيط وهو إمكانية استعمالها أكثر من مئة مرة وكانت النملية أغلى و أكبر قطعة أثاث في بيتنا القديم .
بدأت عقارب الساعة ماراثون العمر وبدأت الثواني تسابق الدقائق والأيام تجري أمام الشهور ...بدأ احتساب العمر المقدّر لي منذ تلك اللحظات في تلك الليلة ، والحقيقة أنّني لم أكن يومًا لأكترث بالجلوس وإحصاء عدد الساعات والدقائق التي تُستنزف من عمري مثل هاتف محمول بدأ مؤشّر البطارية باحتساب نسبة الكهرباء المتبقية فيه تنازليًا ،كم كرهتُ تلك العبارة التي كان معلّمنا يتفنّن في كتابتها إلى أقصى يسار اللوح في المدرسة العجوز التي لم أتأخر عن طابورها الصباحي يومًا كانت تلك العبارة اليومية المملّة " الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك " بقيت تلك العبارة محط سخرية لي ولرفيقي " جاسر شِحْدَة " الملتصق بي أينما ذهبت مثل بقايا طعام في قاع طنجرة ليست من ماركة تيفال حتّى أيقنت أخيرًا أنّ سيف الوقت قد مزّق أجزائي وقطّع أوصالي وتعلمّت بأنّ الوقت ليس كالسيف بل هو السيف بعينه .
لمملتُ نفسي وانطلقت بها فوق صهوة جسدي وامتطيته وكلّي أملٌ بتحقيق أحلامٍ أكبر من أحلام الإسكندر المقدوني....بدأتُ أسابق الزمان وأطوي الليالي والأيام...وتبيّن لي لاحقًا بأني كنت أمثّل دور " الدونكيشوت ديلا ما نشا " فوق صهوة حماره النحيف ..عرفتُ أنّني في هذه الدنيا أقوم بتوصيل النقاط بعضها ببعض بخطوط قدّرها الخالق مسبقًا وقبل ميلادي كنت في حقيقة الأمر أهرب من قدر الله إلى قدر الله في كل مرة.
اليوم قرّرت أن أعقد محاكمة علنية شفّافة ونزيهة بعض الشيء لنفسي !
ترى ما الانجازات العظيمة التي خرجت بها بعد أن عبرتُ الحاجز الأربعين في مضمار العمر؟
هل نجحت حقًا في تأدية دور الخليفة على الأرض بأكمل وجه ؟
هل استحقُ أن أكون إنسانًا نافعًا فاعلُا رافعًا راية الحقّ ناصبًا قامتي لخدمة وجودي ،جارّا الانجاز تلو الإنجاز أم تراني أقبع في هامش الحياة لا محل لي من الإعرب؟!
أجلسُ مع نفسي كلّ يومٍ ساعاتٍ طويلة باحثًا عن خيوط البداية والنهاية المتشابكة والمعقّدة فلربما استطعتُ أن أجيبَ عن كلّ الاسئلة الحائرة في عقلي .
لا أخفيكم سرّا أن الأدوار اختلطت عليّ ؛ فمرة أكون القاضي ...ومرة ألعبُ دور المحامي ...ومرة أكون المتهم ...وأخرى أكون الشاهد ومرات كثيرة لا أعرف من أنا أو من أكون!
أقفُ اليوم مع نفسي ...أعاتبها على أكوامٍ من سنين ضاعت ما قمت في جوف الليل فيهن ليلة أو ركعة .
أعاتب نفسي أعنّفها لشهور مضت وأضحت الشمس في كبد السماء ولم أغرس لنفسي ركعتي الضحى وما علمت أنها خير من الدنيا وما فيها .
أجلدُ نفسي بسوط الندامة والخسران وقد فاضت أودية الدقائق والساعات والثواني وأنا أسمع المؤذّن ينادي فلا رددتُ خلفه ولا أفلحتُ لمّا دعاني للجماعة " حيّ على الفلاح ".
احترق أسفًا حين المنادي في عتمة الفجر شقّ الظلمة " الصلاة خير من النوم " فكان غطائي يهوي على جسدي يلتهمني.... يخفيني بداخله بل يبخّرني فلا أثقل منه إلا حديدًا جعلوه أوزانًا يتسابق في حمله الأبطال .
ترى ماذا تريد مني الحياة أو ما الذي أريده أنا من الحياة ....أقف حائرًا أخاف سماع دقات الساعة وحركة العقارب التي لا تتوقف ...لقد سرق منّي الزمن كلّ شيء وأبقى لي الندامة و الحسرة أتجرّعها..فالسيف " الوقت " قطّع أجزائي دون ألم وأراق شبابي دون أن أشعر....
لماذا لم أفرّق بين الليل والنهار؟...والأبيض والأسود.....لماذا لم أعرف أنّ ثمة فوارق بين أن تكون إنسانًا أو أن لا تكون؟ ...لماذا عُمي بصري؟ أو بمعنىً أدقّ لماذا أعميت بصري عن هدفي والهدف مني ؟ ....وعن وجودي أو لماذا وجدت...لماذا ...ولماذا ولماذا...؟؟؟
أتساءل..!!
والان دعوني اعترف لكم أصدقائي وأعدائي على حد سواء...دعوني أعترف بجريمتي وجريمتكم أنتم أو على الأقل الكثير منكم...هل تعتقدون في أنفسكم أنكم أبرياء! وأنكم الذئب الذي لم يفترس نبي الله يوسف ؟!..هل أنتم أبرياء...؟هل أنتم مقتنعون حقا بأنكم لم ترتكبوا نفس الجرائم التي اقترفتها مرارا وتكرار...؟ لتمسكوا أقلامكم ...وتفتحوا دفاتركم واستعدوا لتدوين جرائمكم بأيديكم...كم مرة في حياتك استكثرت على عامل الوطن عبارة " الله يعطيك العافية" ودفنتها تحت أقدامك لأنك اعتقدت يوما بأنه لا يستحقها والسبب بأنها مهنته وبأنه يتقاضى راتبا مقابل العمل...من أين جئتم بهذه الحماقة..ومن منا سينكر هذه الجريمة...كم مرة رمينا أكياس الشيبس أو سكتنا عندما رماها أولادنا من المركبة ..ولم ننطق
حتى بكلمة واحدة ..خوفا على مشاعر الصغير أن نجرحها أو نخدشها....ونسينا حينها بأننا أدمينا الوطن بكامله وربما قتلناه و كنا أخطر عوامل الحت والتعرية في جرح كبرياء الأرض والوطن والشجر...من قال أنها ليست جريمة أليست النظافة من الايمان...أم أن الإيمان لنصف ساعة نصفها نوم يوم الجمعة ونحن نطالعُ رجلاً يدعى الخطيب لا نفقه كثيرا مما يقوله....كم مرة تهافتنا على المخابز....بوباء وبغير وباء....حرصنا على تنظيف كل الرفوف والزوايا والقرشلة فلم نبق ولم نترك قطعة كعك بسمسم أو بدونه...فقط أردنا أن نملأ الثلاجة وجميع الرفوف في المطبخ وربما تحت السرير خوفا من انقطاع الخبز...ونسينا أن رحمة الله لا تنقطع ولا تنتهي ...لكن الأدهى والأمرّ عندما نتسابق في اليوم الثالث من يملأ حاوية القمامة أسرع من الآخر...هل نحن برأيكم أبرياء أم مجرمون...
كم مرة سمحنا بأن يكون صوت الأغاني في التلفاز والمسجل الصوت الذي سيدون في موسوعة جينيس لأعلى صوت في الحارة أو حتى في البناية...ونسينا أو تناسينا جيرانا لنا مرضى وعجائز و طلاب يستعدون لاختبار الرعب التوجيهي....نسينا بأن المؤذن ينادي ..الله أكبر...الله أكبر ...وما زالت أصوات الأغاني تطغى على هذا النداء المقدس الرباني ....هل نحن أبرياء أم مجرمون؟
كم مرة عنّفنا أبناءنا في الصف الرابع وغضبنا لأن أبناء عمّهم حصلوا على معدل أو نتيجة في الاختبار الأول أعلى من درجتهم...لكننا لم نغضب لأنهم لم يتقنوا حفظ صغار السور أو تلاوة الكهف يوم الجمعة حتى يضعوا علاماتهم الحقيقية وسعادتهم الأبدية بأيديهم...فهل برأيكم نحن أبرياء أم مجرمون....
لن أطيل عليكم الحديثَ وكيلَ التهم ...لأنني أعلم أن كل واحد منا إن أعمل عقله وقلبه في التفكير بهذا السؤال سيصل إلى الإجابة الصحيحة حتى وإن كانت الإجابات أصعب من اختبار الفيزياء هذا العام.
السؤال بسيط والإجابة أبسط مما نظّن .!!
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
04-09-2021 09:13 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |