05-09-2021 10:23 AM
سرايا - كتب - جواد العناني - كتب نائب رئيس الوزراء الأسبق، الدكتور جواد العناني، مقالاً تحدث فيه عن لقائه الأول بصاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال، و تالياً ما كتبه العناني:
أول مرة التقاني فيها صاحبَ السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال عام 1972، كان لقاؤنا عابراً جمع بين الأمير وبعض المسؤولين في المجلس القومي للتخطيط والبنك المركزي، ووزارة المالية، ووزارة الاقتصاد الوطني من أجل وضع خطة لثلاث سنوات لاخراج الأردن من التراجع الاقتصادي الذي لازم المملكة لمدة خمس سنوات ابتداء من عام 1967 حين أُحتلت الضفة الغربية وحتى عام 1973.
وقد هدفت الخطة خلال الفترة 1973-1975 إلى خلق سبعة آلاف فرصة عمل بكلفة تبلغ (179) مليون دينار أو ما يساوي حوالي (25) ألف دينار لكل فرصة عمل.
وبعدما بُدِء بتنفيذ تلك الخطة سافرتُ إلى الولايات المتحدة في نهاية عام 1973، وبعد حرب رمضان (أكتوبر)، لكي أحصل على الدكتوراة، وعدت في نهاية شهر تموز/ 1975 أي بعد سنة ونصف السنة من سفري، وكانت أقصر دكتوراة زماناً حصل عليها أي طالب من جامعة جورجيا العريقة بالولايات المتحدة، والتي أُسست عام 1785، وكنت أول العائدين بالدكتوراة من بين زملائي الذين بدأت العمل معهم في البنك المركزي رغم سفري بأكثر من سنة أو سنتين بعد آخر مبعوث منهم. وعُينت رئيساً لدائرة البحوث الاقتصادية عند عودتي.
في ذلك العام، بدأ العمل على الخطة الخمسية الأولى، وقد ساهمت في وضعها ضمن فريق الخبراء. وقد حفظت أرقامها عن ظهر قلب. وقد طُلِب مني أن أعد بحثين ليُقَدَّما في مؤتمر التنمية الدولي الذي عُقد في عمان في شهر شباط من عام 1976. ولاقت الورقتان نجاحاً كبيراً، وحضر سمو الأمير الحسن تقديم الورقتين، واستدعاني إليه مهنئاً.
وبعد ذلك بشهرين أو ثلاثة، عُقِد مؤتمر لكل القوات المسلحة بحضور عقداء وعمداء وألوية من جميع الأسلحة والأمن العام، وقد كان المنظر مهيباً جداً، ولما حضر جلالة الملك الراحل الحسين بن طلال غفر الله له، وسمو الأمير الحسن ودولة رئيس الوزراء مضر بدران، والوزراء، جلسنا نحن فريق الخبراء خلف رؤسائنا أعضاء الخطة الرئيسيين، ووجد الراحل د. حنا عوده رئيس المجلس القومي للتخطيط نفسه غير قادر على تقديم الخطة، ففقد وعيه من الاجهاد، وطُلِب مني أن أقدمها بدلاً منه.
فقدمتها ارتجالاً لمدة أربعين دقيقة على شكل قصة لها بداية ووسط ونهاية، وتذكرت فضل والدي وأساتذتي عليّ لأنهم طالما شجعوني على الخطابة والارتجال ومواجهة الجماهير، وسمعت المرحوم صاحب الجلالة يقول » وين مخبيين هذا الشاب؟». وهنأني هو والأمير الحسن ورئيس الوزراء على حسن الأداء.
وبعدها صار سمو الأمير الحسن يأخذني معه إلى محاضراته في كلية الأركان، وإلى قواعد الجيش المختلفة. وصرت أمضي في صحبته في الفيافي شمال الأردن ووسطه وجنوبه.
وأعجبت دائماً بمقدرته الفذة على معرفة جغرافيا الأردن بأدق تفاصيلها، وطرقها. وأثناء عودتنا ذات مرة على متن طائرة عسكرية من قاعدة الأمير الحسن الجوية في الـ H-5 بالصفاوي دار حديث بين سموه والمرحوم عصام العجلوني وزير العمل آنذاك وشاركت فيه. وانتهى الحوار بأن يقوم وزير العمل باختيار اقتصادي ليساعد الاجتماعيين في بلورة خططهم وتحسين قدرتهم على التفاوض.
وفي شتاء عام 1976، استدعى سمو الأمير الحسن فريقاً ليعلم الأردنيين فناً جديداً في الحوار أطلق عليه آنذاك العصف الذهني. وقد اختارني لأكون ضمن المجموعة التي ستشارك في ذلك التمرين والتدرب على أصوله. وبعد ثلاثة أيام من انطلاق الحوار، أصابني زكام شديد أقعدني الفراش. وأعطيت من طبيب البنك المركزي المرحوم د. عبدالسلام القمحاوي اجازة مرضية.
ولما كانت العاشرة صباحاً إذ بزوجتي تفيقني من النوم متلهفة «سمو الأمير الحسن على التلفون» وإذا به يؤنبني، «يا أخي أنا اطلب هؤلاء الناس وحضرتك مش مستعد تترك فراشك وتحضر». وبغض النظر عن المرض، غادرت الفراش وعدت إلى التمرين وحضرته كل يوم حتى انتهت مدته. وقد لاحظت آنذاك شاباً وسيماً يحضر ولا يشارك، بل يجلس خلف حاجز زجاجي يستمع ويراقب. ولما سألت عنه قيل لي هذا الاستاذ أحمد عبيدات، مساعد مدير المخابرات العامة الجديد.
وقد ناداني بعد انتهاء الدورة، وسلم علي مهنئاً. وتحدث إلى سمو الأمير الحسن شاكراً إياه على دعوته للحضور. أما أنا فقد غادرت المكان وقد علمت أن القائمين على الدورة قد أبلغوا سموه أنني قد أصبحت أثناء الحوار المحرك الأساسي له من بين المشاركين، ولذلك فقد كان غيابي مضراً بالتمرين. ولهذا حرص سموه على استدعائي للحضور رغم المرض.
وقد كُلِفْت بعد ذلك بعدد من المهام لوزارة العمل منها إلقاء محاضرات في معاهد الثقافة العمالية، ومنها ترؤس مجلس توفيق للمصالحة بين عمال شركة الانتاج بالرصيفة وإدارة الشركة التي كان مديرها المرحوم هشام الطاهر والذي عمل قبل ذلك مديراً للعمل في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. وقد تمكنت من الوصول إلى حل مرضٍ للطرفين. وفي ضوء ذلك، نقلت بايعاز من سمو الأمير الحسن لأصبح وكيلاً للوزارة (أميناً عاماً). وقد كان معظم مدراء الدوائر في الوزارة يأملون في أن يترقوا إلى ذلك المركز، وجاء تعييني في سني المبكرة آنذاك مفاجأة غير سارة لهم.
وطلب مني سمو الأمير الحسن أن أرافقه صباح يوم جمعة في زيارة لعدد من المصانع، ومنها مصنع الكلور، وقد كان المصنع خالياً إلا من حارس يرتدي بدلة عسكرية، ويلاحقنا على قدميه، وكلما واجه سيارة سمو الأمير الحسن أدى له التحية. فسأله الأمير الحسن من أين أتى بالبدلة العسكرية، فقال له أنه اشتراها من السوق، ولم يعجب ذلك الجواب سيدي الأمير على الاطلاق.
ومرة استدعاني سموه لكي أرافقه إلى مدينة سحاب حيث كان مدعواً على الغداء عند أحد وجوه البلدة من آل أبو زيد. ولكن الأمير لما وصل هنالك، ترجل من سيارته ونزل إلى السوق، يسلم على الناس في الشارع، ويسلمون عليه، ويضحك معهم ضحكته المجلجلة التي صارت علامة فارقة. وبقينا ندور في الأسواق، وأصحاب الدعوة وذووهم وأصدقاؤهم ينتظرون وصول سموه. وبعد أكثر من ساعة على هذا النحو، وصلنا بيت صاحب الدعوة، ودخلنا، وقد كان وزني أيامها لا يزيد على (72) كيلوغراماً، وكمية الطعام التي كنت أتناولها من المنسف والخرفان المحشية لم تزد على عشر لُقمات. أما سيدي الحسن الذي كان عسكرياً وبطل كاراتيه (دان سبعة)، وراكب خيل عتيد، فكان يومئ إلي باستمرار لكي آكل أكثر. ولما غادرت المكان لم أكد أقدر على المشي.
ولكن المتعة الرائعة في صحبته كانت في الجلوس معه للحديث في موضوعات شتى، وعلى درجة عالية من الوعي والثقافة، فالأمير الحسن صاحب ثقافة رفيعة، تخرج من اكسفورد وهو بالكاد (21) سنة، وتزوج من سمو الأميرة ثروت الحسن بنت عائلة رفيعة مسلمة من أهل الهند الذين هاجروا عام 1947 إلى السند في باكستان. وكانت والدتها سفيرة في بريطانيا. ولقد تعرفا على بعضهما البعض في جامعة اكسفورد. وأنجب الاثنان ثلاث فتيات هن الأميرات رحمة، وسمية، وبديعة ومن بعدهن الأمير راشد. ولقد كانت الحوارات التي تجري بين سمو الأمير وأفراد أسرته ممتعة حيث يتبادلون النقاش والجدل. ويتقن الأمير الحسن عدة لغات هي العربية والانجليزية، والفرنسية، والتركية، ويعرف الألمانية.
ولما توطدت علاقتنا أكثر، خاصة بعدما صرت وزيراً عام 1979، صرت أرافقه في سفراته الخارجية. وأذكرعام 1982أنني سافرت في معية سموه إلى تركيا وقد كانت أيامها تحت الحكم العسكري برئاسة الجنرال كنعان ايفرين. وقابلنا قادة الجيش هناك، ودعانا الرئيس ايفرين للعشاء في وقت الافطار حيث كنا في شهر رمضان، وذلك لأن الرئيس العلماني لا يولم افطاراً رمضانياً. وهو تفسير علماني مبالغ فيه.
وقد حدث حينها أن السفير الأردني هنالك المرحوم د. وليد السعدي قد تعرف إلى فتاة تركية وتقدم بطلب الاذن من وزير الخارجية للزواج منها، ولكن الوزير آنذاك السيد مروان القاسم لم يطلب من جلالة الملك–حسب ادعاء السفير- منحه الاذن. وطلب مني د. وليد أن أفاتح سيدي الأمير الحسن بذلك. وتحمس سمو الأمير، واتصل هاتفياً بجلالة الملك الحسين الذي رحب بالأمر وسمح به. وعندما التقينا على طعام الافطار أبلغ سمو الأمير الرئيس التركي بذلك حيث أصر الأمير على حضور الخطيبة «عائشة» طعام الافطار. وبعد انتهاء الدعوة أتاني د. وليد السعدي مصفر الوجه ليقول لي «لماذا ورطتوني هالورطة؟» واكتشفت أنه كان يشير إلى ما ذكره الأمير الحسن للرئيس التركي عن موافقة الملك على زواج السفير من عائشة فقلت له «يا ويلك، والله أنه معالي مروان القاسم معه حق. اوعك تحكي هالحكي لسمو الأمير». وتزوج وليد السعدي من الآنسة عائشة، وبقيت زوجته حتى وفاته حسب معلوماتي.
ومرة صاحبت سمو الأمير إلى النمسا حيث زار هيئة الطاقة النووية، ومركز الناتو. والتقى بالمستشار النمساوي برونو كرايسكي. وكان سموه قد دعا قبل الزيارة بأشهر الممثلة المصرية السابقة إيمان وزوجها الألماني الذي أسلم ليتزوجها لتناول العشاء في قصره في عمان، وكان رجل أعمال ثرياً ينحدر من أسرة أمراء عريقة. وقد اتفقت السيدة ايمان مع سمو الأمير الحسن والأميرة ثروت على أن يقبلا دعوة لهما عند زيارتهما للنمسا في القصر التاريخي الذي يملكه زوجها خارج مدينة فيينا. ولكن الأمير ترتبت عليه واجبات ما دعاه للاعتذار. وفجأة رن هاتف غرفتي في الفندق ليبلغوني أن سيدة تريد محادثتي. وجاء صوتها راجفاً خائفاً «أرجوك... أنا ايمان..» ونزلت لاستقبالها فأبلغتني أنها دعت مجموعة كبيرة من كبار عائلات ألمانيا والنمسا لحضور العشاء على شرف الأمير والأميرة، وأن عدم حضورهما سيكون كارثة عليها وعلى زوجها. وبعد حوار مع سُموه، أبلغني أنه سيذهب للعشاء.
كان قبول سيدي الحسن حضور العشاء فرصة لي لكي أبدو المنقذ للسيدة ايمان وزوجها من الارباك أمام أصدقائها، ما أتاح لي فرصة لألاقي رعاية ملكية من المضيف وزوجته.
وللقصص بقية.