16-09-2021 09:22 AM
بقلم : داود عمر داود
السؤال الذي يطرح نفسَه هذه الأيام بعد الهزيمة الأمريكيّة في أفغانستان: هل تعيشُ الولايات المتحدة الآن اللحظة السوفييتيّة التي أعقبت هزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، عام 1989، تلاها انهيار الاتحاد؟ وهل استراتيجية بايدن الجديدة، بعد 20 عامًا من الحرب، تُشبه (بريسترويكا) غورباتشوف، التي حاول من خلالها الحفاظ على بقاء الاتحاد ولم يحالفه الحظ؟ وهل سيكون بايدن غورباتشوف أمريكا؟
فشل (بريسترويكا) غورباتشوف:
تولى ميخائيل غورباتشوف، رئاسة الاتحاد السوفييتي السابق، قبل أشهر من هزيمة قواته وانسحابها من أفغانستان. وكان الاتحاد في حالة إفلاس لم يعد معها قادرًا حتى على دفع رواتب جنوده. وفي محاولة منه لإنقاذ البلاد طرح غورباتشوف استراتيجيته لإعادة البناء الاقتصادي، حيث عُرفت بسياسة ال (بريسترويكا). لكن جهوده لم تحل دون تفكك الاتحاد السوفييتي، آخر أيام 1991.
اللحظة السوفييتية في أمريكا:
وفي أمريكا، تولّى جو بايدن الرئاسة قبيل أشهر من هزيمة بلاده المذلة في أفغانستان (مقبرة الإمبراطوريات). ومثل غورباتشوف يحاول إنقاذ بلاده من ذيول مغامراتها العسكرية. ولهذا طرح في خطابه الأخير استراتيجية جديدة تقوم على وقف التدخل العسكري في الخارج. وأصبحت أدوات السياسة الخارجية تقتصر على الدبلوماسية، والضغوط الاقتصادية والسياسية، وحشد دعم الدول الأخرى. ويُعد هذا تراجعًا في موقف الدولة الأولى التي تربعت على عرش العالم، منذ الحرب العالمية الثانية، وفرضت هيمنتها بالقوة العسكرية.
الثقب الأفغاني في السفينة الأمريكية:
لقد شكّلت حرب أفغانستان كارثة اقتصادية لأمريكا. إذ كشف بايدن أن كلفة يوم من الحرب بلغت 300 مليون دولار، على مدى عشرين عامًا، ما جعل (أمريكا تنزف). وقد حصل الشيء ذاته مع فرنسا وبريطانيا إذ أفلستا بعد خوضهما الحربَين العالمية الأولى، والثانية وضعفتا، فانتقلت زعامة العالم بعدهما إلى الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. والآن يتساءل بايدن: (من ذا الذي يريدنا أن نستمر في النزف في أفغانستان غير روسيا والصين؟).
عدم إنقاذ الحكام:
تستند استراتيجية بايدن على عدة ركائز، أولها وقف تدخلاتها العسكرية في الخارج. وثانيها أنها لن تتدخل لإنقاذ أي حاكم بعد اليوم، واستُخدم الرئيس الأفغاني أشرف غني نموذجًا، حيث فشل البيت الأبيض في ثنيه عن الهرب. وذكر بايدن أن عدم إنقاذ الحكام هو مصلحة أمريكية. فبلاده بحاجة لحكومات يمكن أن تعتمد عليها.
حرب عسكرية وفكرية ضد الإسلام لثلاثين عامًا:
ومن أبرز ركائز استراتيجية بايدن حديثه عن (قلب الصفحة على السياسة الخارجية السابقة). فخلال الحرب الباردة كان العدو هو الاتحاد السوفييتي، (إمبراطورية الشر)، كما كان يصفه الرئيس ريغان. ولما انهار النظام السوفييتي اتخذت أمريكا من الإسلام عدوًا. فأصبح مجاهدو الأمس إرهابيي اليوم، ونسجت آلة الفبركة الأمريكية الأساطير حولهم، واختلقت مفهوم (الخطر الإسلامي) على الغرب، الذي أصبح مبررًا لشنّ حروب عسكرية وفكرية ضد العالم الإسلامي، منذ أكثر من 30 عامًا.
تصالح مؤقّت أم تعايش سِلمي دائم:
أما وقد تغير العالم الآن، كما يردد بايدن، وأصبحت الصين هي العدو، فلم تعد أمريكا تعتبر الإسلام عدوها الأول وقررت، على ما يبدو، وقف حربها العسكرية والفكرية ضده. ولذلك قال بايدن: (إن قرارنا الخاص بأفغانستان لا يتعلق بأفغانستان فقط. فالأمر يتعلق بإنهاء حقبة من العمليات العسكرية الكبرى لإعادة تشكيل البلدان الأخرى). والهدف هو أن يصطف المسلمون معها في مواجهة الصين، مثلما اصطفوا معها ضد الاتحاد السوفييتي من قبل. فأصبحت مصلحة أمريكا تقتضي التعايش السلمي مع المسلمين، وقبول أنظمة حكم كانت (متشددة) من قبل، كحكم طالبان.
خلاصة القول: البريسترويكا الأمريكية:
لقد انسحب الاتحاد السوفييتي من أفغانستان، عام 1989، وهو ينزف اقتصاديًا من ارتفاع كلفة الحرب. فاستدعى هذا التدهور أن يطرح غورباتشوف مشروع (البريسترويكا)، أو إعادة بناء الاقتصاد. لكن بدل أن يقود الإصلاح إلى انتظام العجلة الاقتصادية حدث العكس، وفقدت الحكومة السيطرة، فقاد ذلك إلى انهيار النظام السوفييتي برمّته.
وفي الحالة الأمريكية كأن الشيء ذاته يحدث، ف (أمريكا تنزف)، كما قال بايدن، ومن أجل ذلك طرح استراتيجية جديدة لوقف النزف، أبرز بنودها وقف الحرب العسكرية والفكرية ضد العالم الإسلامي. فهل يستطيع بايدن قيادة السفينة الأمريكية إلى برّ الأمان؟ أم أن الفرصة قد فاتت ولن يصلحَ العطار ما أفسد الدهرُ؟