حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الجمعة ,15 نوفمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 7166

ذات القبعة الحمراء

ذات القبعة الحمراء

ذات القبعة الحمراء

14-10-2021 10:40 AM

تعديل حجم الخط:

سرايا - «ذات القبعة الحمراء» رواية جديدة للكاتب د.سميح مسعود (الآن ناشرون وموزعون)، وهو صاحب مؤلفات «حيفا برقة.. البحث عن الجذور» في أجزائها الثلاثة، وصاحب «على دروب الأندلس»، و"تطوان وحكايا أخرى»، و"أنطونيو التلحمي رفيق تشي جيفارا»، و"الكرملي»، وروايات أخرى عديدة.

ينتهج الكاتب في هذه الرواية أسلوبه الشيّق المعتاد الممتلئ نضجاً بخبرات نوعية في الحياة المعيشة التي تمتاز بوطنية وعالمية مترابطة محكومة بغريزتي الحب والبقاء. إذ يخاطب القارئ بكلمات رقيقة زاخرة بالعواطف الجياشة طوراً، وبالمواقف الحماسية تارة أخرى، والتي ترتعش لها الأفئدة وتهتز من وصفها المشاعر، فما يلبث أن يطغى على القارئ الاعتقاد بأنه موجود وجوداً واقعياً بين شخوص الرواية من شدة التفاعل معها والانخراط المحموم بأحداثها التي تتتابع في حوالي أربعين فصلاً من الفصول القصيرة التي لا تُشعِر القارئ بأدنى ملل.

إنها رواية متميزة تجمع بين عناصر متعددة، كالعلاقات الإنسانية الصادقة، والأعمال الفنية والأدبية الرائعة التي تعكس هذه العلاقات الانسانية، فضلا عن متابعة التغيرات السياسية التي صاغت العالم في تلك الفترة الصاخبة من تاريخ يوغسلافيا والعالم، وغيرها من عناصر. وقد جرت أحداث هذه الرواية الواقعية، إلى حد كبير، في يوغسلافيا السابقة خلال ستينيات القرن الماضي عندما كان الكاتب يدرس فيها للحصول على درجة الدكتوراه.

تبدأ الرواية برواية الأحداث في تسلسل مترابط منذ مرحلة تعرّف البطل إلى السيدة ذات القبعة الحمراء، التي قابلها خلال محاضرة حول دور الثقافة في التقريب بين الشعوب، وذلك في نادي صداقة الشعوب التابع لجامعة بلغارد في يوغسلافيا السابقة قبل أن تتفكك إلى دويلات الصرب وكرواتيا والبوسنة ومكدونيا وغيرها. وتستمر الرواية على الوتيرة الشيقة نفسها حتى اللحظات التي يقوم فيها البطل بتوديع صديقته على فراش الموت وهي تصارع سكتة دماغية أدت إلى دخولها في غيبوبة تامة. وهي رواية غنية بالأحداث والشخوص، مثل شخصية والدة سلفا (المرأة ذ?ت القبعة الحمراء) واسمها ياغدا، ووالد سلفا واسمه كارلو، وأصدقائه حمزة، ويوسف، وعزت، وبرانكو الذي تزوج من سلفا لاحقا، وغيرهم.

كذلك، يتضح تأثر الراوي بابن خلدون في أثر البيئة المكانية على شخصية الإنسان، عندما أشار إلى تأثر صديقه يوسف عيسى التلحمي بالموسيقى الكنسية التي كان يسمعها صادرة عن كنيسة المهد وكنائس بيت لحم، وكيف دفعته للاستمرار في دراسة الموسيقى إلى أن حصل على درجة الدكتوراه، بينما يفسر جهله بالموسيقى إلى افتقار بيئته المكانية للأجواء الموسيقية وأدواتها، وذلك نتيجة هجرته القسرية من حيفا وقضاء فترة في قرية أجداده في برقة التي لم يجد فيها سوى «شبّابة»، بينما كان الكثير من الناس يولدون في بيوت فيها آلات موسيقية متطورة، كالبي?نو، والجيتار، والكمان.

ويوضّح الكاتب في الرواية طبيعة أهل تلك البلاد الذين يتعاملون مع الناس على قاعدة الإنسانية، ويذكر أن صداقته مع المرأة ذات القبعة الحمراء لم تتوقف حتى بعد أن تزوجت من شخص آخر (برانكو الذي أصبح فيما بعد رئيس الحزب الاشتراكي)، وظلت الصداقة مستمرة، وخاصة مع والديها اللذين اعتبراه فرداً من أفراد العائلة، علماً أنه يذكر في قصة صديقه يوسف التلحمي أنه افترق عن صديقته البولندية لأنه كان أرثوذكسياً بينما كان أهل صديقته من أتباع الكنيسة الكاثوليكية المتعصبين آنذاك، بينما يذكر في روايته أن أهل سلفا، بالمقابل، لم يسألوه?قط عن ديانته خلال السنوات الطويلة التي قضاها في رفقتهم، كاشفاً عن الوجه الإنساني للعلاقة معهم.

وتتجلى أحداث حرب حزيران ومأساتها في الاضطراب النفسي والعاطفي الذي عانى منه صاحب الرواية وأصدقائه العرب في يوغسلافيا، وكيف استقبلوهم اليوغسلاف في بيوتهم للتخفيف عنهم من هول الكارثة؛ كارثة خسارة وطن وتشريد شعبه. أما الجانب السياسي من الرواية، فهو يستشرف حرب يوغسلافيا قبل اشتعالها بسنوات من خلال الندوات التي كانت تقام هناك، ويتحدث عن ندوة تحدث فيها رادوفان كراديتش عندما ألقى قصيدة مثيرة للشك، فيها عناصر شوفينية لئيمة واضحة تكره الآخر من غير الصرب، لذلك كان الراوي مدركاً باقتراب الأيام الحالكة المظلمة في تاريخ?يوغسلافيا التي أدت فيما بعد إلى تقسيمها. ويقبع هذا الرجل اليوم (رادوفان) بعد محاكمته في الهيج في سجن بريطاني مدى الحياة لجرائمه في حرب البوسنة.

وكانت للبطل وقفات ومواقف عند بعض الأعمال، كموقفه من اللوحة الفنية الشهيرة لمدينة سراييفو وهي تخلو من مئات المآذن الجميلة التي تزين أفقها والمتناثرة على سعة المكان، الأمر الذي جعله يشتم رائحة الحقد الدفين بين عناصر المجتمع العرقية المتنوعة. وفي هذا السياق يصر الراوي على زيارة قرية رئيس يوغسلافيا السابق الذي نجح في جمع الصرب والكروات والبوسنيين والمكادونين والسلافين معا في دولة قوية واحدة. فزار مدينة كومروفيتش التي وُلد فيها الرئيس تيتو وترحم عليه ووصفها بعناية، وخاصة منزله الذي أصبح متحفاً.

كما يُعرّفنا الكاتب في روايته، إلى العديد من قطع الموسيقى الكلاسيكية، كـ"الدانوب الأزرق» لمؤلفها شتراوس، و"بحيرة البجع» لتشايكفسكي، وسيمفونية بيتهوفن الخامسة «ضربات القدر»، وأوبرا «عايدة » لفيردي، ومقطوعة «مقدمة قطرات الندى» لشوبان. ويضعها في سياق الفن والموسيقى الإنسانية التي تقوم مقام لغة مشتركة بين البشر. وفي أسفاره يعرفنا إلى روايات عالمية مثل رواية ماركو ديتش «الحب في زمن الشيخوخة»، وروايتي همنجواي «الشيخ والبحر» و"لمن تقرع الأجراس». ويستخلص منها مقولة أفلاطون الشهيرة: «الصداقة أعلى درجة في العلاقات ا?إنسانية». وحقيقة الأمر أن رواية سميح مسعود بمثابة تعبير صارخ عن هذه المقولة، حيث يُبيّن فيها أهمية الصداقة المخلصة بين الناس التي تُنسي الإنسان هموم الحياة وأوجاعها.

والرواية تزخر بالمعلومات التاريخية عن الأدب العالمي، وبخاصة الأدب والفلسفات الشرقية، كأشعار عمر الخيام، وجلال الدين الرومي، وحافظ الشيرازي، وغيرهم، إضافة إلى ديانات توحيدية قديمة مثل الزرداشتية التي انتشرت في إيران والهند واليونان وبلاد الرومان، ويربطها الكاتب بقيمتها التوحيدية ويبرز فيها المعتقدات التي يتشارك فيها البشر، كفكرة التوحيد وما إليها، فضلا عن إبراز أهمية شعراء وموسيقيين عالميين، مثل الشاعر الغرناطي لوركا، والمغني الايطالي لوتشانو بافاروتي الذي قدّم أوبرا نورداتو لبوتشيني، وموسيقار الأندلس زرياب? وشاعر ألمانيا الكبير يوهان جوته وكتابه «ديوان الشرق».

الكتاب في مجمله رواية تاريخية واقعية تعبّر عن عظمة الصداقة الانسانية التي تزيل الفروق بين البشر، وفيها فلسفة حياة صيغت بلبنات الخبرة والتجربة والثقافة الغزيرة عبر أكثر من ثمانين عاماً، والتي تستطيع أن تفيض على أصحابها بالراحة النفسية مع اقتراب الشيخوخة، وفي الوقت نفسه يمكنها أن تفيض بأنبل أصناف الصداقة البشرية بين الشعوب على الأجيال الشابة لتزودهم بالأمل الراسخ في انخراطهم الناجح في الكونية من دون خوف أو وجل. لذلك، فإن هذه الرواية التي تنطلق من المحلية إلى العالمية تستحق أن تترجَم إلى لغات عدة كي توضع في م?اف الأدب العالمي، لتصبح في يوم من الأيام إنتاجا سينمائيا ينداح في أصقاع الأرض.











طباعة
  • المشاهدات: 7166

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم