10-11-2021 10:15 AM
سرايا - في مجموعتها النثريّة الأخيرة، والصادرة لهذا العام، تهيء الدكتورة دلال عنبتاوي المتلقّي للدّخول في جو النصوص من خلال العنوان الذي اختارته بعناية؛ «فرح مؤجل». لا شك أن فعل الانتظار المنبثق عن التّأجيل عملية مرهقة بحد ذاتها لأنّها تشتمل على المشقّة والقلق والخوف؛ فما زالت الاحتمالات مفتوحة على سيناريوهات متعددة: فالفرح قد لا يأتي، وقد يأتي متأخرًا، وقد يأتي على هيئة مغايرة لما نحب ونشتهي؛ فلا يعلم الغيب إلّا ربّ الغيب. تقول في نص (شيء مؤجل): دلني الآن/ كيف أحتال/ على عمري ونهاراتي/ حين يغيب صوتك/ وأبقى../ في انتظار قاتل/ لفرح مؤجل. من لا يتقن فن الصبر يجد الانتظار جحيمًا لا تُطاق. النهايات المبتورة والذكريات البعيدة تلحّ على الكاتبة حتّى تستحضر ما كان من معاناة انتظار من تاهت دروبه. تقول في نص (الباب الموارب): لم أودعك/ ظلّ الباب بيننا مواربًا/ وفي ظل كتماني/ أنك أول الزهر وآخره/ وأصدق دفء وأعنفه/ وأنك/ ذاكرة الزمان/ طيف الشباب وأحلامه/ هذا الباب الموارب/ آه.. ما أظلمه!!
«فرح مؤجل» نصوص في اللوعة والشكوى والذكرى والحنين والهجر والصد والكبرياء والندم. مواقف ومشاعر تمرّ أو مرّتْ في حياتنا. قد يجد القارئ الكثير من هذه النصوص انعكاسًا للحظة أو ومضة عاشها في يوم ما. الحياة تأخذنا في مسارات غريبة واحتمالات معقّدة لكنّ الفرح يبقى مؤجلًا ولعلّ تأجيله باب من أبواب الأمل المشروع بالحب واللقاء والدفء.
في لحظة ما قلتُ إنّ هذه النصوص جراح قديمة نكأتها عزلة كورونا، وعندما تمعّنتُ بها أكثر قلت هذه خيبات العمر تجمّعتْ على مدى سنوات طويلة، لكن الأمر الغريب في هذه الخيبات أنّها تشبه خيبات كل واحد فينا، الخيبات التي كانتْ، والخيبات التي ستكون. كأنّها مرآة يرى فيها النّاظر ما تخبّئ له الحياة من عثرات وانتكاسات. تقول في نص (ربما أخطأت): أزين الحزن بفتات ورد الحب بيننا/ ببقايا طفولة العشق الخجولة/ أزرع كلما جف غصن/ حدائق كذب لحب مات. وتقول أيضًا في نص (ظل مواربًا): ربما/ أخطأ الزمن/ حين تركني أحلم/ وأنسج من وهمي/ عرائس ورد/ وسنديانة من روح الهوى/ تغرق في كأس الوهم/ كل ليلة. لكنّ خيط الفرح يبقى حاضرًا على الرغم من وهونه وانكفائه في مواقع كثيرة. تقول في نص بعنوان (بحث): الآن/ أبحث في صوتك/ عن نبرة فرح هاربة/ كانت تائهة في زمن ما/ عنّي.
لو نظرنا في العناوين التي بلغت (120) عنوانًا لوجدنا أنّها تفصح عن الاتجاه الذي من الممكن أن تأخذنا إليه النصوص. في أغلب الاحيان، لن يخيّب النّصّ ظنّنا أو توقعنا عندما نقرأ عناوين مثل: خريف/ وحدي/ لا جدوى/ انتحار/ صراخ/ خذلتني/ بكاء/ آه/ لم تمطر/ وحيدة/ لو أنّي/ لا شيء يجدي/ تاه الظلّ/ بلا غد/ وجل/ رحيل/ سئمتُ/ كاذبة/ أيلول/ خيبة/ كنت وحدي/ تعب/ أخاف/ بدونك/ عتب. في حين تأخذنا بعض العناوين الأخرى إلى مزاج مختلف تمامًا مثل: للفراشة حلم/ صباحك ورد/ ربحت/ وعد/ فرح مؤجل/ في البال/ سآتي/ أمل/ وعد/ أمنية/ حلم/ قلبي.
تنساب الصور الشعريّة بحريّة وسلاسة غامرة فيختلط القريب في البعيد دون أن يشعر القارئ بوقع الانتقال في الصور مثل: تمسح عن عيني غبش الطريق/ تهدهد حزني النهاري/ وأصير شجرة يستوطنني الخريف/ لأنسج من غلالة الشمس نور وجهك. كما جاءت الصور المركّبة بنغمة مختلفة وإيقاع مغاير. تقول في نص (أمنية): كم أتمنّى/ لو أنّ الحلم في عينيك/ يمتدّ كشطآن البحر/ ولا يرتدّ أبدًا/ ولو جاء زبد الموج/ لئلا/ أصبح عنك ومنك أبعد.
اعتمدت الكاتبة على لغة ليّنة مطواعة أزالت من خلالها كلّ الحواجز التي قد تقف حائلًا بين النّصّ والمتلقّي. جاء البناء اللغوي متيسرًا والمفردات قريبة من اليوميّ إلّا ما لزم. المقاطع التي ظهرتْ فيها الحركة كانت حيويّة ومنعشة أكثر من غيرها. تقول في نص (ظل): أنا لستُ ذاك الظلّ/ وما تساقط من ورقي كان سهوا/ ساقته ريح الخريف لحتفه/ وظل يركض/ خائفًا من هزيع الليل/ وحتفه.
ظهرت بعض النصوص كالشهاب في عرض الليل الدامس؛ سريعة المرور ومباغتة. تظهر فجأة دون مقدمات، تضيء الحالة لبرهة قصيرة ثم تختفي فجأة؛ تمامًا كما ظهرت. تقول في نص (نقطة): في كل مرة/ أقول:/ سأضع نقطة هنا/ ولن أبدأ من جديد/ نقطة/ أخطّها بحرًا/ يفصلنا/ يشطرنا نصفين/ أنا فيه وحيدة/ مشتتة/ مجزءة/ مفتتة/ وأنت كل مكتمل. وتقول في نص آخر بعنوان (ممحاة): كانت الممحاة بيدي/ وأول الهم/ نقلة من عينيك للمجهول/ سفر طويل/ لآخر الدنيا شرطه/ ألا تكون معي/ وحين همّت الممحاة/ جفل قلبي/ أن أدخل العام الجديد/ وأنت لست معي.
لجأت الكاتبة في بعض النصوص إلى المفارقة اللطيفة لتختم بها على سبيل الخروج من النهايات الجادة كما فعلت في نص (صبّارة): على تخوم روحي/ تنبت كل عام صبّارة/ يتطاول شوكها/ يجرّحني/ يمتصّ وجعها خلايا روحي/ يعذّبني اصفرارها كل مساء/ حين أتذكر/ أنّها جارتك في قلبي.
لم يغب التناص عن أجواء المجموعة، حيث جاء لتجذير الصورة أو الفكرة المطروحة من خلال الاستناد على واقعة تاريخيّة أو آية قرآنيّة كما ظهر في نص (لا تقلق): فاخلع حقدك/ إنّك بالوادي المقدّس. وأيضًا في نص (هناك): كطفل ضيّع بالدرب أمّه/ فانتبذ قصيّا/ يسحّ عليها دمعًا.
بعض النصوص مكثفة ومحمّلة بعاطفة يستشعرها القارئ وتصل إليه بيسر، غير أنّ هذا الأمر متفاوت بين قارئ وآخر كما أخمن اعتمادًا على مخزون الذاكرة، كما أن طبيعة الشخص الحالم تختلف عن طبيعة الإنسان العملي أو الإنساني. وعلى سبيل المثال قد تكون نبرة الحزن والانكسار وراء هذا الإنغماس الجارف في نص مثل (بكاء): لن أبكيك/ لا فما عاد بالعمر متسع/ لبكاء جديد/ من قال: إنك غبت حد الفجيعة/ لا/ فمثلك لن تمرّ أيامي/ خالية من عينيه/ أو بحّة صوته/ أو ورود يديه/ كل مساء.
بداعي التركيز على الجرعة الوجدانيّة العالية لم تظهر الموسيقى بشكل واضح في النصوص، لكنني وجدت هذا النص مموسقًا أكثر من غيره من حيث البناء واللغة والغنائيّة، وهو بعنوان (رواية): كأننا فصل من رواية/ أنت فيها ضمير الغائب/ وأنا راو لا يتقن فن السرد/ روايتنا تلك/ خائبة فيها الحكاية/ يموت أبطالها/ في لحظة نزق المؤلف/ تحترق أوراقها/ وتنتهي/ كما العادة/ بموت البطل.
الدكتورة دلال عنبتاوي أكاديميّة وشاعرة صدر لها: بدر شاكر السياب.. قراءة أخرى (2016)، المكان بين الرؤية والتشكيل في شعر إبراهيم نصر الله (2016)، ونشرت العديد من الدراسات والمقالات النقدية في الصحف والمجلات الأردنية.