17-11-2021 09:47 AM
سرايا - مؤلف هذه الرواية سعد محمد رحيم كاتبٌ يجمع بين الرواية والقصة. فروايته غسق الكراكي فازت بجائزة العراق سنة 2000 ومجموعته زهر اللوز بـالجائزة الأولى لسنة 2010. أما روايته ظلال الجسد ففازت بجائزة كتارا. على أن الجوائز التي يحظى بها كاتب أو لا يحظى ليست معيارا كافيا للحكم على إتقانه الصنعة الفنية للنوع الأدبي الذي فاز فيه، أو لم يفز، لأن ثمة عوامل غير أدبية، ولا فنية، هي التي لها الدور الحاسم عادة في اختيار الفائز واستبعاد آخر. وهذا شيء معروف، ويكاد يكون القاعدة التي لا استتثناء لها إلا القليل النادر، الذي لا يؤبه له، ولا يقاسُ عليه.
فرواية سعد رحيِّم هذه مقتل بائع الكتب (2016) قامت على حبكة شيقة رغم أن الكاتب كغيره من الروائيين لم يكتبْ روايته مستهدفًا القارئ العادي، بل يخاطب فيها القارئ الضمني المثالي الذي جرى اختياره على مقاس معين هو الذي نجد ظلاله تتراءى في المتواليات السردية المشيرة إلى نمط هذا القارئ، وطبيعته، وثقافته، وميوله. فمروياته من الفصل الأول حتى الأخير تتطلب أن يكون القارئ على دراية بعالم الصحافة، والمشكلات التي تواجه الصحفي في أثناء ممارسته لمهنته، لا سيما إذا كان في صحيفة كصحيفة الضدّ، التي ينم اسمها على موقفها من الوضع العام في العراق بعيد الاحتلال الأمريكي، وقبله، وعلى امتداد تاريخه منذ عهد فيصل الأول مرورا بانقلاب 1958 و1913 و 1968.. زيادة على الخيارات الصعبة التي تواجه الصحفي في الحصول على المادة الإخبارية، ولا سيما إذا كان الأمر يتعلق بتحقيق من النوع الاستقصائي الذي يقول ما لا يُقال.
علاوةً على ما ذُكر تتضمن مرويات رحيّم إشارات جمة للفنون التشكيلية من رسم ونحت، ومدارسها، وتياراتها، وأعلامها، مثل بيكاسو وسلفادور دالي، وغويا، و هنري ماتيس، ورودان. وذلك لأن الشخصية الأساسية التي قامت عليها الرواية، ونعني محمود المرزوق، تدّعى الفن. ولهذه الشخصية أسلوبها في رسم الموديل يتضمن بما فيه من الألوان والخطوط والظلال أحاسيس ومشاعر إيروسية مبهمة، ولكنها تعبر عن طاقة جنسية مكبوتة تتفجّر في ثنايا التكوين عن طريق الكتل المكوّرة، والأجسام الناعمة الملساء التي تفيض بالإغراء، والإثارة. فضلا عن ذلك يحتاج القارئ، كي يتفاعل مع هذا النسيج السردي، أن يكون على دراية بالرواية، لا بمعنى أن يكون كاتبًا مثلا، إذ يكفي أن يكون ممن يقرؤونها باستمرار، وبرويّة. فالراوي، وهو ماجد البغدادي، لا يفتأ ينبش بين الوثائق والرسائل والمذكرات والخواطر عما يزيده معرفة بهذا المرزوق، لا في بعقوبة، بل حتى في باريس وبراغ ونيس والليكسمبورغ متنقلا بنفسه، وبمكالماته الهاتفية، وبقراءاته، وبعلاقاته مع آخرين كانوا على صلة بالمغدور سواء في السجن الصحراوي، أو سجن نقرة السلمان، أو في قطار الموت، في نهج يسلط فيه الضوء على: كيف يختلق الروائي شخصيته؟
وفي الأثناء لا يمل الحديث عن مواقف محرجة مر بها هذا الرجل الذي عُرف بأطواره الغريبة، مشيرا لما في هذه الأطوار من وجوه شبه بينه وبين أبطال في روايات للبير كامو، أو سيمون دي بوفوار، أو سارتر، أو تولستوي، أو كاتب ياسين صاحب رواية « نجمة « أو جبرا في البحث عن وليد مسعود، أو ميلان كونديرا. ولم يفتْهُ أن يشير لبعض الأفلام، ولكبار الممثلين العالميين ممن يجهل القارئ العادي حتى أسماءَهم، وجنسياتهم، ومن هذه الإشارات ذكره لفيلم مدام بوفاري المأخوذ عن رواية فلوبير.
المؤلف الضِمْني
تبدأ الرواية بمشهد شبه طبيعي يقع في شارع الأطباء في بعقوبة. فبينما كان الرجل السبعيني محمود المرزوق يتمشى في وسط ازدحام المارة والمتسوقين متجها إلى منزله سقط أرضا سقوطا مفاجئا مع أن أحدًا لم يسمع أو يرى الشخص الذي قام بعملية الاغتيال من مسافة تقاس بالسنتمترات لا بالأمتار. وسيكتشف القارئ في آخر الرواية أن المرزوق لم يكن مستهدفا بهذه العملية، وأن المستهدف شخص آخر، وأنه قتل في خطإٍ ناتجٍ عن سوء فهم أحد المتورطين بالاغتيال للإشارة المتفق عليها مع الشخص الثاني. وبعيدًا عن نتائج التحقيق الأمني ظهر على نحو مفاجئ رجل مجهول، وهذا المجهول يتصل بماجد البغدادي أحد الصحفيين في جريدة الضد ليقول له: إن المرزوق غابة كثيفة من الأسرار الغامضة، وأن شخصيته جديرة بتأليف كتاب يتضمن ما يحيط بها من غرائب وعجائب، ويتوقع أن يكون كتابا مثيرا. وأن ماجد البغدادي أفضل من يقوم بهذه المهمة لما عُرف عنه من زكانةٍ، ونفاذ بصيرة. وما عرف عن مقالاته من أسلوب أنيق، وبيان رشيق، وعن تحقيقاته من استقصاء ودقيق. ويختتم المجهول رأيه هذا في الكتاب الذي لم يؤلف بعد: فهو بمحتواه دراما تلخص تاريخ العراق والعراقيين، مؤكدا استعداده لتغطية كلفة النشر، علاوة على المكافأة المجزية لهذا الصحفي مقابل أتعابه في التأليف.
وشاهدٍ ومشهود
ما إن شاع الخبر عن نية ماجد البغدادي تأليف كتاب عن المرزوق حتى تواترت الاتصالات به عن طريق الهاتف المحمول تارة، وبريده الإلكتروني تارة، والبريد العادي الذي يصل إلى الجريدة تارة أخرى. ومن أوائل الذين قدّموا للبغدادي بعض ما لديهم من شهادات عن هذا الرجل رباب التي كانت صديقة لمرزوق في طور من أطوار شبابه. ورباب اسم مستعار كان المرزوق يناديها به من باب التستر والمداراة. ومنهم فاتن التي قدمت للبغدادي معلومات قيمة، وغادة، ومصطفى كريم الذي يسلط الضوء في شهادته على ثقافة المرزوق، ودراسته الفن في تشيكوسلوفاكيا، وتحصيله الدرجة الجامعية الأولى. ودعم شهادته ببعض الصور التي لم يبخل البغدادي على المتلقي بوصفها وصفا دقيقا يلقي الضوء على بعض الجوانب من المرزوق. أما الأستاذ حيدر، وهو من أصدقاء المرزوق، فقد استضاف البغدادي في منزله وحدثه طويلا عن غرائب المرزوق. ويضطر البغدادي للذهاب إلى أربيل لأنه علم بوجود شخص فيها كان على علاقة متينة بالمرزوق. وهذا الشخص هو هيمن قره داغي الذي يشبّه المرزوق ببابلو نيرودا. وروى للبغدادي الكثير عن غراميات الرجل مع ناتاشا تارة، وجانيت تارة أخرى، ولم يفته أن يذكر بعض شعاراته في الحياة، وهي شعارات غريبة إذ يؤكد بعضها قربَه من الشيوعيين، فيما يؤكد بعضها الآخر كراهيته لهم، مع أنه لا يمانع في أن يكون ماركسيًا على طريقة سارتر، ودي بوفوار. ومع هذا الموقف العبثي عومل المرزوق وكأنه سياسي خطير، مع أنه لم يزاول أي نشاط سياسي، وكاد يفقد حياته في بعض التهم، إذ كان من بين الذين نُـقلوا في ما يسمى قطار الموت، ولكنه نجا مع الناجين بضربة حظ مثلما يقولون.
يوميات الخراب
أما المرزوق نفسه فلم يغب عن هذا الفريق من الشُهود، ذلك أنه كان قد ترك مخطوطا يتألف من بضع أوراق مبعثرة، بعضها فارغ، وبعضها يحتوي على خواطر ومذكرات، وكان قد وَسَمَ هذه المذكرات بعنوان يوميات الخراب. وأورد المؤلف سعد رحيّم هذه المذكرات على ما كانت عليه مثلما يزعم الرواي ماجد البغدادي، وهي يوميات تؤكّد غرابة أطواره، وما كان يتصف به من طيش سبب له الكثير من المشكلات مع الانقلابيين بصرف النظر عن مذهبهم، فهو لم يكن بخير مع أنصار عبد الكريم قاسم، ولا مع الذين انقلبوا عليه، ولا مع ثورة 14 تموز، وبصرف النظر عن موقفه من هذه الأطراف، كان - فيما يزعم - يتمتع بجاذبية عند الجهات الأمنية، فهي تبحث عنه، وتزجه في المعتقلات، وفي المخافر للتحقيق، بسبب وبدون سبب. وفي هذه المذكرات يتكرَّر الحديث عن علاقته برباب، وبسماهر، التي لم تظهر ظهور رباب بين المتطوعين للإدلاء بشهادة عنه.
ويمثل سامي الرفاعي- الذي يفترض أن يكون- وفقًا لاستقصاء البغدادي- واحدًا من الفنانين الذين كانت لهم علاقة حميمة بالمغدور، ركنا مهما في هذه السيرة. وقد منح البغدادي وقتا كافيًا للحوار، وفيه يستخلص بعض ما لم يشر له الآخرون، وهو أنه كان يشْبه الرسام الإسباني سلفادور دالي، على الرغم من أن المرزوق لم يرض عن هذا الشبه المزعوم، كونه يمقت دالي، ويمقت أعماله، وغموضه، الذي يبلغ حد الجنون. ولم يكتف الرفاعي بالحوار، بل أرسل إليه عشر صورة تمثل مشاهد للمرزوق في مواقع شتى مع أصدقاء آخرين، ثم أجرى معه حوارًا ثانيا، وتلقى البغدادي منه صورًا أخرى تمثل أربع لوحات يمكن الاعتماد عليها في التعرف على أدائه في مرحلةٍ ما. وتضمنت رسالة تلقاها البغدادي بعض التفاصيل عن علاقته بفتاة كانت تتابع تعليمها في الجامعة تخصص اللغة الإنجليزية، ووالدها محام قريبٌ من العائلة المالكة، واشتملت الحكاية بعض التفاصيل عن انقلاب عام 1968 وعن زواج غادة بنت المحامي من ابن عمها الثري، ودخول المرزوق سجْنَ نقرة السلمان.
نقرة السلمان
وفي هذه النقلة من حكاية المرزوق برزت شخصية الحاج منصور الهادي، شريكه ورفيقه في السجن، ولشهادته قيمة تفوق أي شهادة أخرى، مادامَ الهدف كتابة سيرة للمغدور شاملة، ودقيقة، لا تترك صغيرة، ولا كبيرة. وفيما كان البغدادي يجمع أوراقه، ويستعد لمغادرة بعقوبة لبغداد، ظانا أنه استوفي حكاية المرزوق، إذا به يتلقى مكالمة من شخص اسمه فراس السلمان، وهو من أهالي بعقوبة يخبره بأن لديه ما لم يتنبَّـه له آخرون. وما لديه لا يمكن روايته بواسطة الهاتف، ولا بد أن يلتقيا وجها لوجه. والقصة تتعلق بحكاية المرزوق مع جانيت. والمفاجأة هي وجود رسالة من جانيت للمرزوق وجدها السلمان في حاسوبه، ورسالتين من المرزوق ردَّ بهما على رسالتها. أما رسالة جانيت ففيْضٌ من الذكريات يخالطه عتاب، وهذا شيءٌ ذو قيمة كبيرة. وفي رسالتي محمود المزيد من التفاصيل لا عن علاقته بجانيت فحسب، بل عن علاقته بناتاشا أيضًا، وما سبَّبته له من مشكلات مع الأمن التشيكي. وذكر المرزوق في الرسالة الثانية اسميْ عراقيَّيْن أحدهما: حسن اللامي، والآخر أمجد مسعود، وهذا يتطلب البحث عنهما، وعن طريقةٍ ما تصله بأحدهما، أو بالاثنين، إذ من المؤكد أن لديهما الكثير عن المغدور وقصته مع الأيام.
وقبل أن يعثر على أيّ من الرجلين فوجيء باتصال جديد من رباب. وتبين أن لديها مخطوطا كتبه المرزوق بنفسه،دفتر في نحو 200 ورقة كتب في 40 منها بعض مذكراته، وخواطره، وآرائه. وَوَجد البغدادي فيها ثروة لا تقدر لمن يبحث عن أسرار هذه الشخصية. وبدأ قراءتها مواصلا حبك روايته فيما هو يقرأ، ملحًّا من حين لآخر على رواية المذكرات مثلما هي دون تغيير. وفي هذه المذكرات تبرز شخصية محمد المنياوي (مصري) وناتاشا، مع استعادة لحكاياته الغرامية مع رباب، وفاتن، وغادة، وجنيت، ومشاهد متفرقة للتحقيق معه في تشيكوسلوفاكيا، كاشفًا في الوقت ذاته عن جولاته، وعن قراءاته لبعض الروايات كرواية (نجمة) لكاتب ياسين، وبعض حواراته المثيرة مع أندريه، وزعمه أن العالم البورجوازي فاسدٌ لكن لا يوجد بديل أفضل منه.
أثير العراقي
على أنّ المفاجأة الكبرى التي صدمت البغدادي هي تلقيه ظرفًا يحتوي على رسالة من مرسل يدعي أنّ اسمه أثير العراقي، وهو معارض غادر العراق إلى اليمن. ويزعم فيها أنه من أعرف الناس بالمرزوق. ويدلي بآراء غيَّرت الكثير مما كان يظنه البغدادي حقائق. فهو ينفي أن يكون المرزوق فنانا مؤكدًا أنه مدّع، وأن ما قيل عن لوحاته لا قيمة له قطعا، وأنه لم يبع من أعماله شيئا ذا أهمية. وأنه على الرغم من احترافه بيع الكتب، لم يقرأ إلا القليل، وهو قارئ سيء. وشعاراته التي يطلقها عن البروليتاريا أكاذيب، ولم تعره البروليتاريا أدنى اهتمام. وعلاقاته النسائية مشوبة بالخيانات، والأكاذيب، وحكاياته مع الأوكرانية، ومع ناتاشا، مشينة جلبت له سوء الحظ. وليس فيما ذكره عنهما إلا القليل من الحقائق، فهو يزعم أنه دون جوان بلا أساس. إذ كان شعاره « الكذب المباح في الإغواء الصُراح « وهو باختصار لطخة ملعونة في الذاكرة.
اللايقين
يتأمل الأحداث في الرواية يكتنه الطريقة الفنية التي يعتمدها رحيّم، فهي كالرواية البوليسية، وإن لم تكن كذلك. فالمؤلف الضِمْني - ماجد البغدادي - يقوم بالتحري، واستخلاص المعلومات من الشهود، واحدًا تلو الآخر، فيجمع ما تفرق من هذه الأخبار، ويتنخَّل منها الصحيح، ويستبعد غير الصحيح. وما إن بلغ الذروة، وظن أن السيرة المقصودة أصبحت قاب قوسين، إذا بشهادة أخرى جديدة تضع كل ما ذكر في دائرة الشكّ، واللايقين. وهذه هي الطريقة التي يتبعها كثيرون في رسم ملامح الشخصيات الرئيسة في الرواية. اتبعها جبرا في البحث عن وليد مسعود. وقد ذكر رحيم هذه الرواية صراحةً، مؤكدًا أنَّ رسم الشخوص في الرواية لا يكون بالارتجال، بل يتطلبُ حبْكة معقدة، ودقيقة، لا يعوزها التشويق.