22-11-2021 03:13 PM
بقلم : فادي أبوبكر
صوّر الشهيد غسان كنفاني في روايته "رجال في الشمس" شخصية "أبو الخيزران" بالقيادي الانتهازي الذي لا يهتم سوى بتحقيق رغباته الشخصية وفوائده الخاصة، والذي تحوّل من مناضل إلى سمسار ومهرّب، يعبث بحياة ثلاثة أشخاص كل منهم وراءه قصة معاناة، أبو قيس، وأسعد، ومروان، في مقابل 10 دنانير لكل منهم، أودت بحياتهم خنقاً في النهاية، على الحدود.
ويبدو أن كنفاني حاول في هذه الرواية تقديم رؤية استشرافية، للتحولات التي يخشى أن تصيب الحالة الوطنية الفلسطينية والتي جسّدها في شخصية أبا الخيزران، وهي رؤية عبّر عنها أيضاً الشهيد صلاح خلف "أبو إياد" بمقولته الشهيرة: " أخشى ما أخشاه أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه الخيانة وجهة نظر"!.
ولعلّ من أبرز هذه التحولات التي نعيشها اليوم، تراخي وتشتّت الخطاب الوطني الفلسطيني، ودخول مجموعة من المصطلحات الخبيثة دون وعي إلى الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية الفلسطينية، وبغض النظر عن ماهية هذه المصطلحات وسواء كانت بقصد أو غير قصد، فإن تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني الذي تم تقريره عام 1996م بما لا يتعارض مع اتفاقية أوسلو عام 1993م والذي تضمن إلغاء المواد التي تظهر الصهيونية كعدو يُراد التخلص منه؛ شكل أحد أبرز أسباب تشتت الخطاب الوطني الفلسطيني، كون الميثاق يمثل المعيار الإجماعي الوطني باعتباره صادر عن الجسم الذي يمثل الكل الفلسطيني.
و للاحتلال الاسرائيلي - شأنه شأن أي استعمار - دوراً أساسياً في تشكيل وقولبة المشهد الفلسطيني ببنيته الاقتصادية والسياسية، وتنامي المشاكل الاجتماعية والنفسية والاقتصادية تحت الاستعمار، وتقييد الفلسطيني باتفاقيات مثل اتفاقية أوسلو وملحقاتها التي أفرغها على مرّ السنين من مضمونها.
ويعمل الاحتلال على مدار الساعة على هدم وتفكيك نسيجنا المجتمعي وإغراقه في دوامة المشاكل الإجتماعية والاقتصادية والسياسية، إضافة إلى اتّباعه سياسة اختراق الوعي والثقافة والموقف، مستغلاً حالة الانقسام والشرذمة الداخلية، وحملات التحريض الداخلية والخارجية المشبوهة ضد القيادة الفلسطينية، في سبيل تدمير المنظومة القيمية والأخلاقية التي تُشكّل شبكة الأمان والاستقرار للفلسطيني ولمرجعيته الأخلاقية.
ان ما نشهده من انهيار شبه كامل للنظام العربي، خاصة فيما يتعلق باتفاقيات التطبيع المجانية، وسياسات الإحتلال الإسرائيلي في فلسطين، والتحولات الخطيرة التي نمر بها، هذه جميعاً ستهدد بنية المجتمع الفلسطيني بكامله. وسيجد الفلسطيني نفسه وحيداً في مواجهة أخطاره من دون أن يجد أحداً يمد له يد العون والمساعدة.
إزاء كل هذا الواقع من المفترض،أن تعمل المنظومة الرسمية الفلسطينية بكافة تمثلاتها، على تحصين المناعة المجتمعية للمجتمع الفلسطيني،وتحصين تلك المناعة يحتاج معاول بناء جدية وحقيقية،قادرة على القيام بواجبها ودورها ومسؤولياتها على قاعدة الصمود والاستعداد للهجوم. إذ أن التحصين الداخلي،عبر التوعية المستمرة في مختلف القضايا الوطنية،وخلق نماذج ايجابية في التعاطي مع الجماهير،من شأنه وجوباً أن يخلق حالة من الثقة المتبادلة ما بين الجمهور وحاضنته الرسمية، ويمتّن الجبهة الوطنية في مواجهة السياسات الاستيطانية الاستعمارية، ويُحبط كافة المؤامرات التي تُحاك من كل حدبٍ وصوب.
ولا يمكن الشروع في عملية البناء قبل هدم كل صرح شاهد على سقوطنا، ولعلّ المفاهيم المغلوطة والمصطلحات الخبيثة الدخيلة على خطابنا هي أول ما يجب هدمه، إذ أن سياسات التسمية هي من أهم جبهات التحرر الفكري والاجتماعي والسياسي، وكشف زيف وخطورة هذه المفاهيم مهمة وطنية واجبة وملحّة.
وبالعودة إلى شخصية أبي الخيزران، يُشار إلى أنه وبحسب الرواية، سائق شاحنة عمل في الجيش البريطاني، وعمل مع الفدائيين فأصيب بقنبلة أفقدته رجولته وأعطته كل مرارة العالم، فكره نفسه، وجعل كل طموحه في تكوين ثروة وتحقيق منافع شخصية.
وهنا أتساءل: هل أخطأ كنفاني في تصوير أبي الخيزران بـ "الخصي"؟، نظراً لعدد الخيزرانيين الذين يخرجون علينا كل يوم، أم أنه كان يأمل ألاّ يصبح "أبو خيزران" ظاهرة في المجتمع؟.
رغم واقعنا الخيزراني المقيت، سأبقى على أمل، ولعلّك لم تخطأ يا كنفاني في تصوير أبو الخيزران بالخصي، ولعلّ نسل الخيزرانيين ينقطع مهما طالت الأزمان....
فادي أبوبكر
كاتب وباحث فلسطيني
fadiabubaker@hotmail.com