01-12-2021 03:08 PM
بقلم : داود عمر داود
جاء تسارع الانتشار العسكري الأمريكي في اليونان، خلال الفترة الماضية، ليزيد العلاقات المتشعبة، بين واشنطن وأنقرة، توتراً في العديد من الملفات التي من بينها التنافس الدولي والإقليمي على إستخراج الغاز في شرق المتوسط. وقد استبعدت الولايات المتحدة تركيا من خططها بهذا الشأن، وقامت بتطوير علاقاتها العسكرية مع اليونان، دون إطلاع الجانب التركي، الأمر الذي تسبب بإنزعاج القادة الأتراك.
قاعدة (ألكسندروبوليس):
مصدر الإنزعاج التركي هو قيام الولايات المتحدة بإنشاء قاعدة بحرية في منطقة (ألكسندروبوليس) باليونان. وقد حشد الأمريكيون في هذه القاعدة كافة صنوف الأسلحة الهجومية، من طائرات ومروحيات ودبابات وعربات عسكرية، في منطقة لا تبعد عن حدود تركيا سوى 20 كيلومتراً. كما جرى حشد مزيد من القطع البحرية الأمريكية في جزيرة (كريت)، قرب منابع غاز شرق المتوسط. علماً أن عدد القواعد العسكرية الأمريكية، في عموم أوروبا، يصل إلى 50 قاعدة، منها 15 قاعدة في اليونان لوحدها.
تركيا ليست المستهدفة:
ومن ناحية سياسية، فإن الحكومة التركية تدرك، رغم انزعاجها، أنها ليست هي المستهدفة من إنشاء قاعدة عسكرية في (ألكسندروبوليس)، وأن هناك عوامل اخرى جعلت واشنطن تُقدم على هذه الخطوة، أهمها التنافس بينها وبين موسكو في ملفات متعددة منها العسكرية، والاقتصادية، والتكنولوجية، والاصطفافات السياسية. ولهذا لجأ الأمريكيون إلى تعزيز تواجدهم في بحر إيجة والبحر المتوسط، لمحاصرة وعزل روسيا.
يضاف إلى ذلك عامل مهم وهو أن توتر العلاقات بين تركيا وامريكا أوجد فرصة ذهبية لليونان للتقارب مع واشنطن، وتطرح نفسها كبديل عن تركيا، خاصة بعد أن فشلت في تأليب الاتحاد الأوروبي على تركيا.
كما أن هناك عامل مهم آخر يزعج واشنطن، ألا وهو إصرار تركيا على أن تعيق جهود شركات أمريكية في التنقيب عن الغاز حول قبرص، فيما قامت تركيا هي نفسها بالتنقيب هناك. أضف إلى ذلك عدم رضا الأمريكيين عن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا.
غاز المتوسط هدف أمريكي إستراتيجي:
ويرى خبراء أتراك أن (ألكسندروبوليس) لن تكون مجرد قاعدة عسكرية أمريكية لكنها ستتحول إلى مركز لتخزين الغاز الذي سيتم استخراجه مستقبلاً من شرق المتوسط والذي سينافس الغاز الروسي، المتجه نحو أسواق أوروبا. وأن القاعدة العسكرية مصممة أصلاً كي تحمي مرافق الغاز وخطوط الأنابيب.
ويشير الخبراء إلى أن الخطة الاستراتيجية الأمريكية تقضي، بعد استكمال ترسيم الحدود البحرية بين الدول، بإقامة بنية تحتية لإستخراج غاز شرق المتوسط وأيصاله، عبر ميناء (ألكسندروبوليس)، إلى دول الإتحاد الأوروبي، كبديل للغاز الروسي، الذي تسعى واشنطن إلى منعه من التدفق إلى الأسواق الأوروبية.
سكة حديد من اليونان إلى فنلندا
وتزامناً مع إنشاء هذه القاعدة العسكرية الأمريكية، ومن أجل تعزيز عزل روسيا تجارياً، قامت الولايات المتحدة، خلال العامين الماضيين، بإعادة تأهيل خط سكة الحديد الذي يربط 12 بلداً أوروبياً، يبدأ من ميناء (ألكسندروبوليس)، شمال شرق اليونان، وينتهي في العاصمة الفنلندية هلسينكي. ويمر الخط في كل من: بلغاريا، وصربيا، وكوسوفو، وهنغاريا، وسلوفاكيا، والتشيك، وبولندا، ولتوانيا، ولاتفيا، واستونيا، وصولاً إلى فنلندا في شمال القارة الأوروبية.
العتب بين الحلفاء:
يبدو واضحاً من ردود الفعل التركية على الحشود العسكرية الأمريكية، في اليونان، أنها تأتي من باب عتاب الحلفاء. فالولايات المتحدة وتركيا لن تستغنيا عن بعضهما البعض، على الأقل في المدى المنظور، وان الجانبين حريصان على إبقاء (شعرة معاوية) بينهما.
إلا أن العتب التركي على واشنطن أنها اختارت الحليف اليوناني، (الجار غير المناسب)، كي تستعين به لتنفيذ خططها الإستراتيجية، واستثنت بذلك الحليف التركي. ومن هنا ترى أنقرة انه كان من باب أولى أن تلجأ أمريكا إلى تركيا. وتقول، بكل ثقة، ان اليونان مهما كانت فهي لن تشكل بديلاً عن تركيا بالنسبة للولايات المتحدة، وان مسألة قيام أمريكا بإيجاد موانىء وقواعد بديلة، في منطقة بحر إيجة، لن يكون لها تأثير بعيد المدى على المصالح المتشابكة بين أمريكا وتركيا.
إستبعاد تركيا:
ويبدو أن ما أثار غضب تركيا أنها كانت تتوقع أن يناط بها، من قبل واشنطن، مزيد من الواجبات الإقليمية، في ضوء تقليص التواجد الأمريكي في الشرق الأوسط وأوروبا، وهي ليست منزعجة من مسألة إقامة قاعدة (ألكسندروبوليس) بحد ذاتها، وإنما منزعجة من سلوك واشنطن في استبعادها من هذه الجهود كونها عضو رئيسي في حلف الناتو، وتعتبر من السبع الأوائل بعد أمريكا، من بين أعضاء الحلف، من ناحية عدد الجنود والدعم المادي الذي تقدمه، وتدرك أنقرة أن موقف أمريكا تجاهها جاء على خلفية سياستها في شرق المتوسط، وقراراتها الداخلية التي لا تتماشى مع المصلحة الأمريكية.
وما أثار حفيظة تركيا أكثر أن تلجأ أمريكا للاستعانة باليونان التي ليس لديها إمكانيات، (وهي في أواخر الركب، بينما نحن نثق بانفسنا ونشارك في تأمين المنطقة)، كما يقول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. ويتساءل معاتباً (لماذا نصبح أعداءاً لبعض؟ ونحن وأمريكا واليونان أعضاء في حلف الناتو).
خلاصة القول: عودة سياسة العزلة والحصار:
ربما تشكل سياسة الولايات المتحدة، لعزل روسيا عن الغرب، ستاراً حديدياً (غربياً) هذه المرة، فقد كان تعبير (الستار الحديدي) يصف سياسة العزلة التي اتبعها الاتحاد السوفياتي السابق، بعد الحرب العالمية الثانية، عندما أقام حواجز تجارية، ورقابة مشددة، عزلته ودول أوروبا الشرقية، التابعة له، عن العالم الغربي. واليوم يأتي الأمريكيون، بعد 75 عاماً، كي يتبعوا نفس سياسة العزلة، التي انتهجتها (إمبراطورية الشر السوفياتية)، بإقامة حواجز تجارية تحول دون وصول الغاز الروسي الى دول أوروبا.