21-12-2021 09:28 AM
سرايا - صدر حديثا عن دار جرير للنشر والتوزيع، كتاب (من الاستشراق إلى الاستغراب، تفكيك كتاب محمد والغصن الذهبي) للناقد الأستاذ الدكتور عبدالقادر الرباعي.
يتضح في سيمياء العنوان أنَّ المؤلف يقف موقف المواجهة والرد (من – إلى)؛ من الاستشراق: ويُعرف الاستشراق بأوضح مفاهيمه وأبسطها أنَّه الاهتمام بشؤون الشرق، ودراسة مكوناته وحضارته وثقافته وشؤون حياته. وهذا هو المعنى الذي استند إليه المؤلف. أما الاستغراب، أو الاستشراق المعاكس -كما يحلو لبعضهم تسميته- فهو الرد على هذا الاستشراق الغربي، بما نظّر له الدكتور (حسن حنفي) في كتابه (مقدمة في علم الاستغراب)، سواء بدراسة شؤون الغرب، أو الرد على مستشرقيه، وعلى الشبهات التي يثيرونها ضد التراث العربي والإسلامي، بالطرق النقدية العلمية والموضوعية.
أمّا العنوان الفرعي (تفكيك كتاب محمد والغصن الذهبي) ما هو إلا إشارة إلى المنهج الذي اتبعه المؤلف في دراسته، متخذا التفكيكية -التي اجترحها جاك دريدا- منهجًا لتفكيك الخطابات الثابتة، وطريقا للوصول إلى اليقين المفترض، من خلال التشكيك في النصوص، والحفر في بناها المعرفية والفلسفية، وخلخلتها وفكّ شيفراتها؛ وصولا إلى تركيبها من جديد؛ وفق رؤية إنتاجية جديدة أعلى وأكثر إقناعا؛ إذ اتخذ المؤلف من نقد النقد أو (الحجاج الهادئ) -على حد تعبيره- طريقا للردّ على ما جاء في كتاب المستشرق الأمريكي (ياروسلاف ستتكيفيتش) من أفكار ومزاعم ممزوجة بالسُّمِّ تجاه تراثنا الديني وتراثنا الأدبي.
ذكر المؤلف في مقدمة كتابه أنه يحاور مستشرقًا مألوفًا للنخبة البحثية العربية في جامعاتها الكبرى، وهو البروسيفور (ياروسلاف ستتكيفيتش) الذي زار أكثر هذه الجامعات، وألقى فيها بحوثًا ومحاضراتٍ وندوات. وأشار أيضا إلى أنَّه يقرأ في كتابه جانبا من فكر (ستتكيفيتش) في أكثر من اتجاه، لا سيما كتابه (محمد والغصن الذهبي، إعادة ترميم الأسطورة العربية)، ذلك الكتاب الحافل بالأفكار الاستشراقية المسمومة المعادية للدين الإسلامي وللرسول الكريم، والتي استند المستشرق في صياغتها –للأسف- على مصادر إسلامية عربية، تحديدًا على نصوصٍ ومرويّاتٍ مشكوكٍ في صِحَّتِها، نُسبت إلى الرسول الكريم، حول حديث (قبر أبي رغال والغصن الذهبي). مع العلم أنَّ هذه النصوص لم ترد في كتب الحديث الستة المعروفة لدى المسلمين. فراح (الرباعي) يفكّك خطاب (ستتكيفيتش)، ويقدم الأدلة والبراهين التي تفنّدُ مزاعِمَه، مُبْرِزًا ما أغفله أو تغافل عنه (ستتكيفيتش)، من أدلة جمة في تراثنا تشير إلى ضعف هذه المرويات، وكاشفًا الإشارات الخفية في ثنايا الخطاب التي تشي باستثمار (ستتكيفيتش) لمثل هذه المرويات لأغراض دينية وسياسية استشراقية.
وفي الفصل الثالث من الكتاب، عرض (الرباعي) بعضًا من أفكار (ستتكيفيتش) في أبحاثه وكتبه، التي -وإن كانت تتميز بالدقة والصرامة العلمية- إلَّا أنه يشوبها ما يمزجه في ثنايا الكتابة من خطابات استشراقية، تحاول النيل من العربية؛ كبحثه المنشور في مجلة (فصول) حول (سينية شوقي وعيار الشعر العربي الكلاسيكي)، الذي حاول فيه إثبات انعدام الصلة والتأثر بين شوقي والبحتري، رغم الوضوح الذي لا يحتاج دليلًا، ورغم إقرار شوقي نفسه بذلك الأثر، وليس بَحْثُه هذا إلا محاولةً للنيل من الشعر العربي لاسيما الشعر الإسلامي، ذاك أنَّ تَأَثُّرَ شعراء (مرحلة الإحياء) ما كان إلا بالشعر الجاهلي بحسب مزاعمه.
أما كتاب (ستتكيفيتش) الموسوم بـــ(اللغة العربية الفصحى الحديثة)، الذي مدح فيه اللغة العربية مدحًا مُجيدًا وغنيًّا قد يعجز عنه أهل العربية أنفسهم، لكن هذا المدح والإطراء من (ستتكيفيتش) ما كان إلا وسيلة إغراءٍ للقارئ العربي؛ لِيَدُسَّ السُّمَّ في أُخريات صفحات كتابه؛ بقوله: «إن اللغة العربية ما هي إلا تطور للغات الأجنبية الغربية، فالعربية الحديثة تبتعد الآن عن اللغتين كلتيهما: الفصحى والعامية...وأنه في عقود قليلة لاحقة ستكون اللغة العربية عضوًا من اللغات الأجنبية؛ لأنَّ التطور الذي يطرأ على اللغة العربية يأتيها من اللغات الأجنبية الغربية».
إلا أن الرباعي قد فَنَّدَ هذه المزاعم كلها، وجاء بالشواهد على التطور الذاتي للغات، كما جاء بآراء العلماء واللغويين وعلى رأسهم (دي سوسير) ليثبت التطور الذاتي للغتنا العربية، وقدرتها على مسايرة أية تطورات لِلّغات الأجنبية.
وأخيرا نرى أنَّ (الرباعي) في سِفْرِه هذا، وقف مدافعا -وهو أستاذ الأدب والنقد- عن اللغة العربية والأدب العربي، بل ووقف مدافعًا ومنافحًا عن ديننا الإسلامي وثوابته وعن رسولنا الكريم، ضد الأفكار الاستشراقية التي تحاول النيل بطريقة أو بأخرى من ركائزنا العَقَدِيّة. وكي يتحقق الاستغراب الذي ننشده ونأمله، حريّ بهذا السفر القيّم أن يترجم إلى لغات المستشرقين.