22-12-2021 09:51 AM
سرايا - كتب عيسى بلاطة عن اللحظات الأخيرة من حياة بدر شاكر السياب (1926- 1964) في كتابه بدر شاكر السياب حياته وشعره(1971) قائلا « في كانون الأول – ديسمبر- 1964 كانت لحظات الصفاء في تفكير بدر تقلّ وتصبح نادرة، ولحظات الاضطراب تكثر، وتصبح متَّصلة أحيانا، ولم يتعرف على كثيرين ممن كانوا يزورونه، وبدأت تنتابه حالات إغماء، وفقدانِ وعي، وتدوم ساعات.. فإذا صحا يصحو كامل الوعي، متمالكا قواه العقلية، لا ينقصه شيء سوى القوة الجسدية. وأخيرًا، وفي يوم الخميس 24 – 12 – 1964 دخل في غيبوبةٍ، وفاضت روحه في الثالثةِ بعد الظهر. « (1)
الموت قبل الأوان:
وكان الشاعر قد عانى الأمرَّيْن من مرض أعيا الأطباء شِفاؤه، في كلّ من مستشفى الجامعة الأميركية ببيروت، والمستشفى الأميري بالكويت، ومستشفى سانت ماري في لندن، عدا المستشفيات الأخرى في البصرة وبغداد. وهذا المرض كان سببا للحد من نشاطه الذهني، والبدني، فلطالما شكى من أنه لا يستطيع الوقوف، أو السير على قدميه، أو أن يمسك بالقلم ليكتُب، حتى إنه كتب قصائد يتصور نفسه فيها ميّتا في مقبرة:
أريد أن أنامْ
بين قبور أهليَ المبعثرة
وراءَ ليل المقبرة
ولَشدّما توقّع رحيلهُ عن هذا العالم، فأراد أنْ يترك ما يذكّرنا به، وأن يحفر اسمه في ذاكرة الأصدقاء حفرًا، حتى لا يُنسى مثلما يُنسى الكثيرون:
فأين أبي وأمي؟ أين جدي؟ أين آبائي؟
لقد كتبوا أساميَهم على الماءِ
ولسْتُ براغبٍ حتى بخطِّ اسْمي على الماءِ
وداعًا يا صِحابي.. يا أحبّائي
إذا ما شئتموا أنْ تذكروني، فاذكروني ذاتَ قمراءِ
وإلا فهْوَ محضُ اسمٍ تبدَّد بين أسماءِ
وداعًا يا أحبائي
أول الغيث:
بدأ السيّابُ حكايتَهُ مع الشعر كأيِّ مبتدئ لا بدَّ من أن يُقلد السابقين، والمعاصرين. وقد حفظ لنا التاريخ الأدبي الكثير الجمَّ من أشعاره المبكرة، التي تشهد على هذا الطور من أطواره الأولى. فعندما اندلعتْ ثورة رشيد عالي الكيلاني ضد الانجليز، وأعوانهم، في العراق 1941، قالَ في ذلك، وهو ابن 15 عامًا، شعرًا يُذكّـرُنا - لغةً ونظمًا وأسْلوبًا - بشعر أبي تمام، وبشّار بن بُرد:
رشيدُ، يا نعْـَـم الزعيمُ لأمــةٍ
يعيـثُ بها عبْدُ الإلهِ وَصحْبُهُ
وتأثّر في بداياتِه بعدَدٍ من المثقفين، منهم: ناجي العبيدي، صاحب جريدة الاتحاد، و خالد الشواف، ومحمد علي إسماعيل، وتعرّف في دار المعلمين على سليمان العيسى، ومحمد علي الزرقا. ويبدو أنه في تلك الأثناء، أي في سنة 1945 اقتربَ من الحزب الشيوعي العراقي، وبسبب ذلك سُجن مرارًا في بغداد، وفي بعْقوبة. وتفتَّحت شاعريَّتُه لحافزيْن، أولهما السياسة؛ فموقفه من الاستغلال الطبقي البشع، والرجعية الحاكمة المتمثلة في عبد الإله، ونوري السعيد، وغيرهما، فجَـَّر في صدره ينابيع العَطاء الشعري. والثاني عالم المرأة، إذ يذكر إحسان عباس في كتابه (2) « بدر شاكر السياب دراسةٌ في حياتهِ وشِعْره « 1971 نقلا عن أحد زملائه في دار المعلمين، أنّ قضية الجنس كانت تشغله أولا، وقبل كل شيء» ويضيف: إنّ ذلك من حقه، فهو قرويٌ جاءَ من بيئة محافظةٍ تمنع الاختلاط إلى أخرى تتسامحُ فيه بلا حدود، ولذلك شحذ شعورُه بالعشق المكبوت، وما اطلع عليه من أشعار الحبّ الرومانسي لدى إبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، والياس أبي شبكة، و بايرون، ووردزورث، و شيللي، ووليم بتلر ييتس، فتوالتْ قصائدهُ الغزلية كأنها صَرَخاتُ قلبٍ، ونفَثَـاتُ حبّ.
تعرّف في بغدادَ على عددٍ من المثقَّفين، والكتّاب، الذين تأثَّر بهم أيضًا، وأفادَ منهم بصُوَرٍ شتى، ومن هؤلاء جبرا إبراهيم جبرا، ومصطفى جواد، وطه الراوي، ونازك الملائكة، ولميعة عبّاس عمارة. ويبدو أن هذه الصلات، وما أسفرتْ عنه من حوافز، دفعتْ به دفعًا لإصدار ديوانه الأول « أزهارٌ ذابلة « في مصر1947(3). والذي لا ريب فيه، ولا شكّ، أن ما ذكرناه لا يكفي لتفسير التوجُّهات التي غلبَتْ عليه في شعره. فإنَّ ما خاضه من معارك أدبية، إن كان الأمر على المستوى السياسي (مرحلة اليسار) و (المرحلة القومية) أو على مستوى العلاقة بالتراث أو القطيعة معه، أو على مستوى العلاقةِ بالآخر؛ الإفادة من الأدب العالمي قديمه وجديده، ولا سيما الأمريكي، والإنجليزي، أو على مستوى الصَنْعَة بالامتثال لقواعد الشعرية العربية التي يزخر بها الموروث، أو الانقلاب عليها، والمُضيّ قدُمًا فيما يُعرف بالثوْرة على القصيدة الاتباعية (الكلاسيكية) لغةً وأغراضًا، فهذا كله، أو أكثرُهُ، طبع تجربة السيّاب بطابع الريادة، إذا ما تذكّـرْنا جيل الخمسينات، والستينات، في العراق. وفي مقدِّمة هؤلاء نازك الملائكة، والبياتي، وبُلَنْد الحيدري. فالسيّابُ- دونَ غيره – حافظ بصفةٍ ثابتةٍ، ومستمرّة، على شَعْرة معاوية مع الموروث الشعري. ففي الوقت الذي كتَبَ فيه « أنشودة المطر» و» غريبٌ على الخليج «، وغيرها، نشَر قصيدةً بعنوان من المقبرة (1958) يعبّر فيها عن تبرّمه من أنّ بغداد لم تثُرْ مثلما ثارتْ الجزائر في وجْه الاحْتلال الفرنسي:
هذا مخــــــاضُ الأرض لا تيــــأسي
بشراكِ يا أجداثُ حـان النشـــور
بشراكِ في وهــــرانَ أصداءُ صـور
سيزيف ألــــقى عنـهُ عبءَ الدهور
واستقبل الشمسَ على الأطلسـي
تشهدُ هذه القصيدةُ شهادةً صادقةً على أنّ صاحبَ (كانَ حبًا) و(شبّاك وفيقة) و(أفياءُ جيكور) و(أم البُروم) و (الغيمة الغريبة) و(منزل الأقنان) وغيرها الكثير.. لم يتنازلْ قطعًا عن الجسور التي تصله بالتراث الشِعْري العربي، بما يميزه من نظم مقفّى، وجَرْس موسيقيٍّ مصفّى، لا حدودَ فيه للتناغيم، ولا مندوحة له عن المعنى العظيم في اللفظ الفَخيم، فعذوبتُه لا تضْعُف، ورَواؤُه لا ينْضَبُ. فهو لا يفتأ ينتَفعُ بالرويّ الساكن المعتمد على صائتٍ طويل هو الواو (نشور، صور، دهور، تثور) ولا يفتأ ينْتَفع من الروي الطليق بما في الياء من امتدادٍ رخيّ يحقّق بعض التوازن مع الرويّ الساكن في باقي الأبيات، مع اختياره للبَحْر السريع. وإذا نظرنا في التراكيب، وجدناهُ يكرِّر بعض الألفاظ الانفعاليّة مثل بُشراكِ، ويوظّف، إلى جانبِ هذا التأصيل، شيئا آخر جديدًا، هو الأسْطورة، بذكرهِ سيزيف الذي ألقى العِبءَ عن كاهله بالثورة، وتخلَّص من الصَخْرة.
موهبة وتقاليد:
بهَرَ السيابُ قراءَهُ بشعْره التقليديّ الذي يسميه بعضُهم (عموديًا) – وهي تسْميةٌ خاطئة- سواءٌ من حيث التزامُه بقوالب القصيدة، وهيكلها البنائي، أو في طريقة بناء الجملة الشعرية، أو اختياره لمفردات لا هي بالغريبة الحوشية، ولا بالسوقية المبتذلة. ورأى فيه قراؤه شاعرًا كبيرًا قبْلَ أنْ يكسِر قيود القصيدة المعدنية، وقوالبها الصلبة صلابَةَ الجِبْس، فأقبلوا على قراءَة شعره التقليدي، وكأنه غير تقليدي. فها هي ذي أبياتٌ من قصيدة موضوعها غيرُ مَطْروق، ولا مُتناول، وهو الحديثُ عن ديوان شِعْره. ومناسبتُها ليست كالمناسبات المألوفة، المعتادة، فهي عن تنقّل ديوانهِ هذا من فتاةٍ لأخرى، وسَطَ تساؤلاتٍ عمّنْ هي الفتاة التي يُحِبّ:
ديوان شعر ملـؤه غــزلُ
بين العذارى بات ينتقـلُ
أنفاسي الحرّى تهيمُ عـــلى
صَفَحاتهِ والحـبُّ والأملُ
وستلتقي أنفاسهنَّ بــــها
وترفّ في جنَباتهِ القـُـبَل ُ
ديوان شِعْر ملـؤه غــزلُ
بين العــذارى راحَ ينتقل (4)
والمُلاحظ أنَّ السيابَ، في هذه القصيدة، مجدّدٌ بقدر ما هو مُقلّد. وهذه هي سمةُ الشعر الأصيل، الصادق، الذي لا زيف فيه، ولا تصنّع . فالصُورة في البيت الثاني عن الأنفاس التي تهيم على صفحات الديوان، والقبلُ التي ترفُّ رفيف الأقحوانِ في صباه، وتكرارهُ بيتا كاملا هو الرابع، ليكون كهَمَزْة الوصل بين وحدتين متلاحمتين في النصّ، وَمَضاتٌ جديدةٌ في غَمْرٍ وافِرٍ من التقْليد الأنيق. أما الحوار الذي يتخيَّل الشاعر نفسه فيه يخاطبُ الديوان، فهو حوارٌ يكْسِر به أحاديّة الصوت لصالح الثنائيّة في النصّ، أو تعدّد الأصوات، وهذا التعدُّد يؤولُ بالشاعر- الصوت الأول - ليتمنّى أن يكون الثاني:
يا ليتني أصبحتُ ديواني
لأفـرَّ من صَـدْر إلى ثانِ
هكذا- إذن - تقدّم لنا المغالاةُ في الحبّ، والبراعةُ في النظْم، وتنوّع القوافي، واتساق البحر السريع، صورًا في غاية الشفافية عن أحاسيس السيّاب، ووجدانه، من غير زخرفةٍ، ولا تنـْميق. وفي أشعاره الأخرى نتعرف على وجه آخر للسياب، ونسمع منه صوتا جديدًا بأنغام مختلفة، ولهجة أكثر تهدُّجًا، وانفعالا. ففي أمّ البروم –اسم مقبرة- يتفاعل المتكلم مع مشهد إنسانيّ مؤثر يتجسَّدُ في توْسِعة للمدينة على حساب الميّتين. وهذا المشهد يتصادى لدى الشاعر الذي يتوجَّع حزنًا على هذا المصير لبني الناس، فحتى أجداثُ الموْتى تُهانُ، ولا تبالي عجلة العمران البشريّ بسَحقِ الرفاة، وطمْس القبور، ومحو آثارها، لتظهر في مكانها المباني، والأبراج الطينيّة، وغير الطينيّة، التي تشهد على تعفّن المدينة التي يُقال إنها صورةٌ من صُور هذهِ الحضارة:
ولكن لم أرَ الأجداث يطردهنَّ حفّارُ
من الحفر العتاق، وينزع الأكفان عنها أو يغطيها
مجون مدينة، وغناء راقصة، وخمّارُ
يقول رفيقيَ السكرانُ دعْها تأكل الموتى
مدينتنا ، لتكبرَ ، تحضنُ الأحياء، تسقينا
شرابًا من حدائق برسفون، تعِلُّنا حتى
تدورَ جماجمُ الأمْواتِ من سُكر مشى فينا(5)
ففي هذه القصيدة جمعَ الشاعرُ كلَّ ما من شأنه أنْ يسمَ شعرهُ بالجدّة، متنقّلا من صوت الأسْلاف إلى صوت الحاضر الموشوم بقسوة الحضارة المادية، وبشاعة النمَط الاسْتهلاكي. وإزاءَ هذا المشهد المُقزِّز نجد من يفرح فرحًا شديدًا باتساع المدينة على حساب الراحلينَ منا، منتظرًا أنْ تجود عليه ربة العالم السفلي (برسفون) بالشراب المُسكر السائغ، فالمدينة تتغوَّل، لا على الأحياء فحسب، بل على الموتى أيضًا، في سبيل أن تضيف حيّا جديدًا، ومعمارًا باذخًا أجَدّ.
ومن هذين المثالين- لا أكثر- نلاحِظُ على السيّاب اختلافَه عن غيره من الشعراء؛ لا في استخدامه للغة، أو توظيفهِ للأساطير (سيزيف، برسفون) ولا في مراعاتِه للوزن تفعيلةً، أو بحرًا. ولا التزامه بالقوافي رويا وجرسًا تبْعثُه فيها الحركات، وأصوات المدّ، فحسب، وإنما يختلفُ في أنه جمعَ بين الأصالة والابتكار. ففي شعره نسمع صوته هو، ونسمع معه صوت الشاعر القديم الذي بلغت لديه صنعة الشعر غاية العَفَويّة، ومُنْتهى الجودة. وهذه المُعطياتُ تذكرنا بما قيلَ، ويتكـرّر، عن إشكاليات الشِعْر اليوم، وما يتواترُ منْ أنّ أكثر الشعراء- مع التسامُح في استعمال اللفظ - يفتقرون لتلكَ الأصالة، ويفتقرون للابتكار. فهم، في أحسن الأحوال، يعرفون شيئًا ما عن الشعر، وتغيبُ عنهم المعرفة بأشياءَ كثيرةٍ، كقول أبي نواس (عرفْتَ شيئا وغابتْ عنك أشياءُ). ولهذا نجدُ ما يُنشر من شِعْر، سواءٌ في الدواوين، أو الصُحف، أو في المَجلات، والمواقع الإلكترونية، كلامًا فيه ضربٌ من الترتيب الذي يُحاكي ترتيبَ الشِعر المَطبوع، إلا أنه - للأسَفِ - لا علاقة لأكثرهِ بالشِعْر، أو بالنثر. وهو في أكثر الأحيان يفتقر لشعريّة الشِعْر، ونثْريَّة النثر.
هوامش:
بلاطة، عيسى، بدر شاكر السياب حياته وشعره، ط2،بيروت، 2007، ص 225
انظر ما كتبناه عن كتابه في إحسان عباس والنقد النصي، دراسات، مج22، ع 3، حزيران 1995 ص 1359- 1378
للمزيد انظر كتابنا: مدخل لدراسة الشعر العربي الحديث، ط1، عمان: دار المسيرة، 2003 ص 269 و ص ص 176- 283
شوقي عبد الأمير ، النهر والموت- مختارات من شعر السياب،ط1، بيروت: دار الفارابي، 1998 ص 17
السياب، المعبد الغريق، ط1، بيروت: دار العلم للملايين، 1963 ص 25