05-02-2022 11:50 AM
بقلم : أمين فهد القضاة
كهف نفسي
رجعت عائدا إلى كهف نفسي الذي أحمله معي حينما أسعى، ويحتضنني حينما أهجع، أتذكر فيه حكايات أبي رحمه الله واستحضره إلى خيالي حتى كدت أحس أني جالس في حضرته، أستمع الى حكايات التاريخ، فالتاريخ يحب الأحداث المثيرة يسجلها ويقف منها موقف الحياد.
كان أبي مولعا برواية الحكايات وكانت له حكمة تقول: أننا نَحِن إلى الماضي ونستمتع بحكاياته، لأن الماضي يتحول في الحاضر إلى خيال تحقق، وهو أخف وطأة من المستقبل لأنه يظل خيالا لم يتحقق، فتكون معاناتنا معه أشد وأكبر.
وفي ثنايا خيال المستقبل الذي لم يتحقق يقبع الأمل أو الوهم، وهو مقصد حكاية ابي رحمه الله التي قصها علي في ذلك الكهف...
فبعد أن بدأ بمقدمته الشهرزادية "كان يا ما كان، في زمن انطوت فيه الازمان، في مدينة اسمها عمان، وجد بين المخلوقات انسان " قال:
كان في مدينة الأدراج والعمدان عمان فتى اسمه قتيبة، وكان لقتيبة آمال وأحلام ينظر إليها من نافذة الأمل، وكانت اماله واحلامه تنحصر في الحصول على وظيفة يؤسس من خلالها لحياة كريمة، ويستخدم كلمة كريمة لاحقا لإخفاء اسم عروسه في بطاقة حفل الزفاف غيرة منه على مهجة القلب التي تقبع في ثنايا أمل خيال المستقبل...
لم يكمل أبي عبارته الأخيرة حتى تغيرت نبرة صوته، واختلفت قسمات وجهه، فتنهد تنهيدة عميقة ثم أردف قائلا...
كان قتيبة مؤمنا بأن تلك الأحلام والآمال لن تتحقق في مدينة الأدراج والعمدان عمان بل في مدينة بعيدة، وعلى قتيبة أن يحزم أمتعته ويقبل يد ابيه وامه وان يستقيل من حب عمان لفترة لا يدري أحد مداها الا الله....
وقبل أن يقدم على الهجرة ارسل قتيبة تساؤلا لصاحب المكانة الأرفع في مملكة الحب والذي شغل المنصب الجديد حديثا يقول فيه:
هل مازال الأمل قائما بأن احقق أحلامي في مدينة العمدان والأدراج مدينة عمان، أم أن الهجرة هي الخيار الأمثل؟
أجابه صاحب المكانة الرفيعة لا تهاجر يا قتيبة فأحلامك امانة في عنقي، وما جئت لأشغل وظيفة صاحب المكانة الأرفع الا لأحول أمل الشباب إلى واقع ....
تنهد أبي تنهيدة أخرى شعرت وكأن كهفي الفسيح ضاق على كلينا ثم قال:
لقد استبدل صاحبة المكانة الرفيعة الأمل بالوهم فبعد انتهاء مدة ولايته، هاجر صاحب المكانة الرفيعة إلى مدينة بعيدة ليعمل أستاذا في جامعة مرموقة، ويحقق فيها حياة كريمة تاركا قتيبة لصاحب المكانة الأرفع الجديد الذي بدأ بالترويج لوهم آخر جديد يقول فيه: "أن الأيام الجميلة لم تأت بعد ..."
أدرك أبي أن حكايته لم تكن من حكايات التاريخ المبهجة فقال قبل أن يغيب في الظلام: "ألم أقل لك اننا نحن إلى الماضي ونستحضره لأنه خيال قد تحقق، ونخشى خيال المستقبل لأنه لم يتحقق فتكون معاناتنا معه أشد وأقوى..."
وها أنا مرة أخرى في كهف نفسي الذي أحمله معي حينما أسعى ويحتضنني حينما أهجع..