07-02-2022 08:38 AM
سرايا - اختارت الأديبة انتصار عباس تجنيس مجموعتها الموسومة بـ «حرائق حلم» والصادرة عن وزارة الثقافة عام 2021 بـ «نصوص، رغم أن المتتبع لمفردات المجموعة يوقعها موقع القصة، لا سيما أنها تضمنت في جزئيها الأول والثاني مجموعة من القصص حيث امتازت المجموعة بسرد أدبي لا يحتاج المتلقي لجهد كبير ليستخرج -حتى في جزئها الأوّل - من بين فقراته ملامح الحكاية التي تتعرض مفاصلها في كثير من الأحيان، لتسلسل زماني ووصف مكاني يحكي حكاية تحمل الفرح أحيانًا، والحزن أحيانًا أخرى، والتي في المجمل حملت عناصر القصّة، من مكان وزمان وشخوص وعقدة وحبكة التي بدت واضحة بجلاء. ومع أن كل قصّة نص وليس كل نص قصّة، فالنص الأدبي إذا اشتمل على السرد الزمكاني وشخوص وحبكة صار قصّة.
وتنجح الكاتبة بعرض النصوص بمنهجيّة السرد الأدبي الذي يجنح إلى القصصي والذي يفتح شهيّة المتلقي للولوج بالنص ومتابعة التفاصيل، ليجد نفسه أمام صعود وهبوط ومد وجزر، ويتعرف خلال تجواله على جغرافيا المكان وشخوصه وأحداثه،وليخرج بالتالي قابضًا على الهدف، وقد أوقعت الكاتبة نصوصها بين الفقد والوجد، والأمل والألم، والحنين والأنين، في محاولة منها لتعكس تجربتها الشخصيّة، ولتعرض همّ الذات الكاتبة وهموم العديد من الناس. وهنا نقول إن التجنيس لا يغيّر في المحتوى شيئا لكنه يعين الباحث على الانتقاء.
لا أدري إذا كانت الصدفة أم القصد هو الذي جعل كل جزء من جزئي الإصدار يحتوي على إحدى عشر قصة وأياً يكن الأمر فمن الناس من يشكل لهم الرقم أحدى عشر معاني لها دلالات، فبعض الكتاب يقولون أن هذا الرقم يرتبط بالخبرات غير العاديّة التي تمر بحياة الفرد، مثل رؤية الظواهر وسماع الأصوات الغريبة في حال الاختلاء بالنفس، بالإضافة لاستشراف هذه الأحداث للمستقبل.
إن محاولة دّخول المجموعة من عتبة النّص الأولى، وأقصد العنوان، تقود القارئ للتأمل بمعانيه، فـ «حرائق حلم» يشي بمدى المعاناة التي نتجت عن عدم تحقيق الحلم، الذي صيغ بمراحل عمريّة مختلفة واشتعلت فيه الحرائق، ولمّا يصل بعد مرحلة التحقق، «كمن سقط قالب الكيك من يديه قبل أن يحتفل بعيد ميلاده».
أما العتبة الثانية وهي الغلاف، فقد توافقت مع العنوان،حيث نرى فيه حريقّا شب وعلا في الفضاء، حيث يشير اللون الأزرق إلى مدى ارتفاع الحريق، واللون الأصفر إلى تحوّل من الأخضر، وإلى تدرّج في اللهب الذي أشعلته الحرائق، لكن الملفت أن الحرائق أبقت على فسحة من الأمل، وذلك نستخلصه من اللون الأخضر ففي الأخضر إشارة إلى الأمل والنمو والعطاء، مع أن مساحته محدودة، ما يوحي بأن فسحة الأمل ليست كبيرة لكنها مبشّرة بقادم قد يكون أجمل.
أما النص القصير الذي وجد ليكون كلمة لا بد منها، قبل الدخول في المجموعة فإنه يحمل معنيين، أن الفراشات إذ تسعد بالنّور فترفرف بأجنحتها وتحوم حوله دون أن تصل إليه لأنها تصطدم بزجاج السراج الذي يبعث النور، وتعيد المحاولة مرات ومرات، لعلها تظفر بفرصة النجاح، تشبه في حقيقتها الحلم الأعمى الذي من الصعب أن يتحقق، رغم محاولاته المتكررة لمراقصة النور. والثانية تتمثل في عدم اليأس وضرورة تكرار المحاولة، لأن الأمر يستحق وهو الوصول إلى النور، ويبدو أن هناك شبه بين مسيرة حياة الكاتبة والفراشات وما قادني إلى هذا الاستنتاج الكلمات التي استهلت بها هذه الفقرة التي جاءت كما يلي:
(يراودني ذاك الحلم، فراشات تحوم حول نور متقد من سراج زيتي قديم تحوم مرفرفة. جوانح بيضاء مرقطة، تصطدم بزجاج ذاك السّراج مرات ومرات، حلم أعمى يراقص النور.)
إلا أننا نستطيع الاستدلال على معانٍ أخرى وردت في هذا النص القصير، تمثلت في عبارة « سراج زيتي قديم» التي تشي بالقدم والخير حيث الزيت عنوان الخير، عدا عن تصوير حقبة زمنيّة كان السّراج الزيتي فيها مصدراً للنور، ومفردة تصطدم فيها إشارة لحصول ما لم يكن في الحسبان، فالاصطدام يختلف عن الملامسة،إذ يحلم أحدنا ويندفع لتحقيق حلمه فيصطدم بالمعيقات التي لم تكن سهلة ولم يكن قد توقعها، والتوكيد اللفظي لكلمة مرات فيه تنبيه لعدم اليأس ولتكرار المحاولة.
وسعياً للموضوعيّة وتجنبًا للانتقائيّة، فقد جعلنا النص الأوّل، من الجزء الأول والنص الأّوّل من الجزء الثاني محوراً لدراستنا، لنبين من خلال كل منهما أننا أمام نص قصصي، فقد جاء النص الأول بعنوان «عطر الجوري» نجحت القاصّة بعرض صورة تساعد المتلقي ليكون جزءّا من الحدث، فهي إذ تتحدث عن الياسمينة تقول « حتى دخلت غرفنا وصارت منا» في محاولة لأنسنة الشجرة التي تحب، وجعلها تتآلف مع أفراد العائلة. وجملة « تعلمت من أبي أن أستيقظ باكراً» فيه انعكاس لتراكم الخبرة التي نكتسبها ممن سبقونا إلى المعرفة. وجملة» تراوغنا الحياة، وتغدر بنا» فيها دلائل تشير ‘لى التعب وعدم الاستقرار وضرورة شحذ الهمة والاستعداد لمواجهة الصعاب عن طريق التزود بالمعرفة والتدريب، لأن الحياة لا تسير برتابة ولا تعرف الاستقامة في المسير، وأرى في ذلك تناص مع الآية القرأنية» لقد خلقنا الإنسان في كبد» فالحياة في بعض الأحيان تفرض علينا ما ومن لا نريد فنضطر للمجاراة وقد ظهر ذلك في القصّة الأولى لمّا قالت» في دوائرنا تسكن الحياة بأوجاعها وأفراحها والكثير من البشر، منهم من يقاسمنا الأيام والساعات...قد نحبهم، وقد لا نحبهم، لكنهم موجودون معنا، هذه إشارة فيها محاولة لوصف الحياة، فنحن لا نختار مع من نتعامل، والناس مختلفون بطباعهم ونواياهم، وقد ورد أيضاّ في النص» أن الناس يختلقون الأكاذيب ولا سيء غير الأكاذيب، فيصدقونها» وأنا أضيف ويريدون منا أن نصدّقها». هذه جملة وصفيّة لطبيعة بعض الناس الذين نتعامل معهم والذين يتصفون بالكذب، ولا يكتفون به بل يريدون تمريره على أنه حقائق، ومقطع آخر يقول: «يا ابنتي نهاية الأشياء بداية» وهذا الكلام صحيح، فنهاية الزهرة التي نقطفها هي بداية للشمّ أو الاستمتاع بجمالها، ونهاية القطعة التي نبيعها لبائع الخردة، هي بداية لكسب الطرف الآخر وربما بداية لانصهارها وتجددها وظهورها بشكل جديد، ونهاية الحياة هي بداية للموت وحياة البرزخ، وهكذا.
نكتفي بما أوردنا، إذ تعاملنا مع النص كنص أدبي، لكن هذا النص يحوي الكثير من مؤشرات القص، نورد بعض الأدلة على التوالي ونترك الاستنتاج للمتلقي:
مرض أبي واشتدت عليه الأوجاع، كان ينظر الدم الذي عاث بمنديله وأفسد رونقه، مبتسمَا يخاطب أمي، إنها كثرة الحب يا مريم» صحوت البارحة لأجد وردتين على نافذتي»» يا لهول ما أرى، يكاد يكون أبي، نفس الوجه، الجبهة، العينان المبللتان بالحزن» -الحبكة-» ... يا صغيرتي، تراها جنات كانت مثلك» « أشير بيدي، تفضل اقترب من الطاولة».» قال: أعرف هذا البيت بكل تفاصيله» قلت وأنا ارتعش، صحيح أنا اسمي جوري لكنهم ينادونني جنات» كثيرة هي الشواهد أننا أمام قص أدبي ممزوج بنكهة النص الأدبي.
أما القسم الثاني من الإصدار فقد جاء النص الأول تحت عنوان» مرايا صور» عرضت من خلاله فكرة أن التغيّر بالجغرافيا لا يفقد الأرض ملامحها فحسب، لكنه ينتج تغيرًا في المشاعر، وقد يغيّب الجار عن جاره وقد تغير الجغرافيا ملامحنا بحكم تغيير ظروف المكان وتبقى المشاعر تعتمل في النفوس، عدا عن التأثير في طرق المعيشة وكسب الرّزق. يقول النص.. والحصول «.. وبعد طول غياب تغير شكل الأصدقاء وعناوينهم، الشارع الذي كان يصل بيتنا بالحي تنحى جانبًا بخجل، وقد تغوّل عليه شارع كبير، يصل الحارات ببعضها كأفعى تلوت تحت الشمس، حتى الجارة التي كانت تزرع أحلامها بقوارير صغيرة تبيعها للجيران والناس المارّة راحت ظلالها في البعيد، وظلت أحلامها نوافذ مشرعة، تجلدها سياط الغياب..»
نخلص إلى أن الكاتبة نجحت في المزج بين النص الأدبي والقصة، وأضافت مذاقًا جديدًا، وأنها نجحت بإيصال رسائل خاصة وواضحة من خلال ما كتبت بلغة أدبيّة جميلة وراقية عبّرت عنها بمفردات قويّة أوقعت كل مفردة منها بمكانها الصحيح.