حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الجمعة ,22 نوفمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 2089

البتيري في «نهر لشجر العاشق» .. تطور تراكمي وتنوع في البناء العروضي

البتيري في «نهر لشجر العاشق» .. تطور تراكمي وتنوع في البناء العروضي

البتيري في «نهر لشجر العاشق» ..  تطور تراكمي وتنوع في البناء العروضي

07-02-2022 08:43 AM

تعديل حجم الخط:

سرايا - بعد لوحات تحت المطر 1973، والمتوسط يحضن أولاده 1981، ولماذا رميتَ ورورد دمي 2002، وشبابيك أتعبها الانتظار 2004، وأغنيات عاشق المطر 2007، و للنخيل قمر واحدٌ 2007، يصدر للشاعر علي البتيري (مواليد 1945) ديوان جديدٌ بعنوان « نهر لشجر العاشق» (الخليج للطباعة والنشر، عمان: 2021) وأوّل ما يُلاحظ على الديوان أن صدوره جاء بعد انقطاع دام 14 عامًا لم يصدر فيها البتيري إلا ما له علاقة بشعر الأطفال، وأغانيهم، ولعل الانشغال بهذا النوع من الأدب أحد الأسباب التي صرفته عن الشعر، عدا عن أنه شُغل بكتابة القصص، والرواية، فقد صدرت له أعمال من هذا القبيل. منها مجموعة قصص بعنوان «عائد من الموت « ورواية بعنوان « أيامٌ ليست كالأيام «. أي أن البتيري الذي حافظ على شعرة معاوية مع القريض، وربّة الشعر، آثر، بل أصيب بعدوى التنقُّل من الشعر لغيره، كبعض الشعراء الذين هجروا الشعر إلى النثر القصصي، والروائي، فخسروا - للأسف - الاثنين.

على أنَّ ديوانه هذا لا يمثل أي علامةٍ فارقة، أو مرحلة ثانية متميزة في شعره، فتجعل منه شعرًا مختلفًا مباينًا لذلك الذي قرأناه في دواوينه المذكورة التي صدرت تباعا بين عامي 1973 و2007 لذا نستطيع وصفَ هذا الديوان بالتطوير التراكمي لشعره، ففي « العملاق الهائل « قصيدة عن الحرب الضروس التي تفتك بالآلاف إنْ لم يكن بالملايين، وقد استوحى القصيدة، أو لنقل مضمونها، بكلمة أدق، من لوحة للفنان الإسباني (غويا) الذي شُغل في رسومه بموضوع الحرب. ومن أعماله الخالدة في هذا السياق لوحةٌ بعنوان (العملاق الهائل) وإلى هذا يشير البتيري قائلا:

دعْ يا غويا صمْت الألوان

يتحدث عن أنهار دمٍ يجري

ويشيرُ إلى الأطفال

فوق ضفاف الأنهار

يرمون العملاق الهائلَ

بالوردِ فيرميهم بشواظٍ من نار

ونفورُ الشاعر البتيري من الحرب لا يقتصرُ على هذه الإيماءة للعملاق الهائل في تلك اللوحة، فليالي فلسطين هي الأخرى ليالٍ لا تخلو من آثار الحروب، ولا من جمر الأغاني، ولا من هواجس الرحيل، وجموع الباكين الحزاني، فالعمالقة الهائلون يخيمون على ليل البلاد، والعباد :

حدثينا يا ليالي الأمْر والخمر حديثا دمويًا

عن أناسٍ غرباء

عن رياح فاجرات

تنهش الحقلَ وتغتالُ خوابي الفقراء

فبإشارة خفية، وإيحاءٍ غير مباشر، أحالنا لحكاية الشاعر امرئ القيس الكندي، صاحب المعلقة المشهورة (قفا نبك) وعبارته المعروفة (اليومَ خمرٌ وغدا أمْر) يوقظ في النص ما يوقظه العملاق الهائل في لوحة (غويا) من إيحاءاتٍ وظلال، فهي حرب ثاراتٍ، واعتداءاتٌ، ونضالاتٌ في غياهب السجون والمعتقلات، وصراعاتٌ تظهر على صفحاتها صوَر شمشون، ودليلة، وهدم المعبد على رؤوس من فيه: دير ياسين، قبية، كفر قاسم، أريحا، وغيرها.. مما دوّن في السجِلّ المتصل الأسود لمذابح الإسرائيليين المرتكبة في فلسطين في القديم،منذ يوشع بن نون، وفي الحديث:

افتحي كل أضابير اليتامى الراحلين

وابدئي من دير ياسين

افضحي شرْب َالدم المختوم في كل المواسم

وأعيدي سجدة الموت الحزين

لنجوم سطعتْ في كُفْر قاسم

واللافتُ أنّ إشارة البتّيري لامرئ القيس مع « الخمر والأمر «، وشمشون ودليلة، وكنعان، ترفدها إشاراتٌ أخرى إما من القرآن الكريم، أو من التراث الشعري العربي، أو التاريخ الإسلامي. فهو في قصيدة « ما لم يقله عاشق الصحراء « يكرّر حكاية الفلسطيني الموجوع بالخذلان، لأن اشقاءَه العُربان، وإخوته في الأدْيان، تخلوا عنْهُ، وتقاعسوا، في غدْرَةٍ لم يُعرف مثلها في قديم العهد والأوان، وهرولوا نحو التطبيع مع العدو المحتلّ لفلسطين لؤلؤة الأوطان. فهو يقول في ما ينم على التوازي بين هذا الموقف المتخاذل الذي يبلغ حدّ التآمر، وموقف إخوة يوسف، الذين ألقوا أخاهم في الجبِّ، وجاءوا أباهم بدم كاذبٍ على القميص، زاعمين أن الذئب هو الذي أكله:

تركوني لعذابي

ألقوا بي في الجبّ

وعادوا لأبي بدمٍ أحمرَ فوق ثيابي

ويبدو أنَّ البتيري يخشى ألا يتفاعلَ القارئُ بهذه الإشارة، ظنًا منه أنها غير كافية لإثارة ما يريد إثارته لدى المتلقي، فاستطرد ليذكر بعض التفاصيل التي وردت في سوة يوسف، كالحبل الذي مُدّ له لإخراجه من البئر، والبئر التي مر بها بعض السيارة فالتقطوه، وهذا التفصيل الذي بالغ به الشاعر أحالَ أجزاءً من القصيدة نثرًا، أو شيئا يُشْبهُ النثر، كقوله في ما يأتي( ولعلمك، أعترف الآن، ولا أنكرُ أني لم أتقن في هذا البرد الصحراوي حراسة عينيك) فهذه عباراتٌ من النثر الخالص؛ إذْ لا تختلف عنه إلا بوجود الوزن الذي يكاد لا يلحظ. ونجد مثل هذه الإشارة يتكرَّر في قصيدة « عرسٌ يحضرهُ القيصر «. إذ يُبْدي الشاعر سخريته اللاذعة من الشعراء الذين ينظمون الشعر، ويملأون الدواوين، في مديح السلاطين، متخذًا من الشاعر الغسَّاني، ومدحه قيصر الروم، نموذجًا للإسفاف الذي يبلغه بعض الشعراء للأسف:

يدخلُ غسّاني

بقصيدته العصماء

تعمَّد أن يتأخَّر

لتثيرَ المجلسَ طلعتُه

ويدين مناذرةً

علفوا من قمح خوابيهم خيل الفرْس

ويصوِّر أجراسًا

عن حب القيصر للقدس.

بهذا نجده يصلُ الحاضر بالماضي، ماضي المناذرة وموالاتهم للفرس، وماضي الغساسنة وموالاتهم للروم، والحاضر بما يحتمله من المتخاذلين المتشدِّقين بفرْط محبّتهم للقدس، وهم الضالعون بمؤامراتهم الرامية لتهويدها، والتطبيع مع المحتلّ الفاشي، وتشجيع الاستيطان، تشجيعًا يبْلغُ ببعضهم أن يمول المتطرفين الذين يخططون لهدم المسجد الأقصى، وقبة الصخرة. وتلك الصور من الماضي يوظفها البتيري ويُسْقطها على الحاضر. فأعرابُنا اليوم بين موال للفرس (إيران) وموال للروم (روسيا أو أميركا) فالتاريخ الذي يحتفظ بأخبار الحروب القبلية كحرب داحس والغبراء، وحرب البسوس، ما يزال حتى يومنا هذا يروي، ويدوِّن، على صفحاته السود أخبار الحروب الضارية في اليمن وسوريا، وفي العراق والسودان وليبيا وغيرها.. فالإخوة الأعداءُ لا ينفكّون يبحثون عن الأسباب لإضرام الحروب، والاقْتِتال، فيما تواصل فلسطين بكاءَها، لا حزناً على شعبها فحسب، بل حزنا على المتحاربين الذين تركوا الأعداء، وتشاغلوا ببعض، مُسْتسلمين لما يُسمى الاقتتال الداخلي:

آه لو يعلم فرسان قبائلنا المقتتلين

كم تبكي في الليل عليهم

من أعماق القلب فلسطين

ولا يُعرف ما الذي اضطرَّ الشاعر لإقحام الجار والمجرور « في الليل « في البيت الثاني، إذ المنطق يقول: إنها تبكي في النهار عليهم، مثلما تبكي في الليل، وهذا الجار والمجرور جرّ الشاعر من شَعْره ليقول ما يريده، وما لا يريده، وفلسطين – مع ذلك- تعتصمُ بالصبر، والجَلَد، الذي يذكرنا بصبر أيوب، مثلما تقول أغنية فؤاد غازي. وها هنا للشاعر الحقّ في أن يتساءل عن السلام، وعن السلام البارد لا الدافئ، ما هو؟ وما الذي حقَّقه؟ وهل هو سلامٌ فعلا، أم أنه استسلامٌ بالمعنى الحقيقي؟ فالأرض يَقْضم الاحتلالُ ما تبقّى منها، والاستيطان يتسع اتساعًا غير معقول، ولا مقبول. والمستوطنون يتكاثرون تكاثر الفِطر. والشعارات الرنانة التي تنطلق من أبواق سلطة رام الله – سلطة أوسلو- لغوٌ فارغ، وضربٌ فاضحٌ من الفساد، والخداع، فيما التنسيق الأمني، والتفاوُض العبثي، يحيلان هذه السلطة إلى نوع من الاحتلال بالوكالة، احتلال يضفي الشرعية على الوجود الإسرائيلي في فلسطين:

ماذا جنينا

من سلام باردٍ

غيرالجليد ولعنة استيطانْ

أرضٌ تضيعُ

بفعل لغْوٍ فارغٍ

والغاصبُ المحتلُّ حلّ مكاني.

ولا يفتأ البتيري يعود بنا إلى الماضي؛ فهو سندبادُ فلسطين، الذي دوّخ البرَّ والبحر في أسفاره، ولم تهزمه الغربة، ولا المنافي، ولا ابتلعته الصحراء قطعاً، ولا الفيافي، وعلى العكس؛ يتراءى لنا، وهو يُعدُّ سفينة كسفينة نوح، لتستوي على الجوديّ، وينْجو، فلا يكون مصيرهُ كمصير ذلك الابن الذي لم يُصْغ لأبيه، فكان مع الكافرين المُغرقين:

أعرف كيف يكون اتجاهي

إلى جنَّة الروح في الأرض

أعرفَ كيف أعدُّ سفينة نوح فلسْطين

ويدُ الله معي

ومن الفُلْك، والطوفان، إلى فروسيَّة عنترة العبسي، الذي قرّر بَغْتة، في لحظة صدق، أن يعتذر عن بلائه في حروب عبْس وذبيان بعد أزيد من خمسة عشر قرنًا. ففي تلك الحرب- أو الحروب بكلمة أدق - سالتْ دماءٌ وأريقت، ما كان لها أن تراق، وقطِّعت رؤوس كثيرة ما كان لها أنْ تقطَّع، وفي هذا الاعتذار المتأخر يشير عنترة لحاضرنا الممزق، ولحروبنا المستعرة، بعضنا ضد بعضنا الآخر في معارك قبَلية، ومنازلات طائفية، اندلعت، وتندلع منذ سنواتٍ، وما تزال رحاها تطحنُ الكثير، فلا تكتفى لا ببَكْر وتغلب، ولا بقضاعة أجمعين، على رأي الشاعر القديم عمرو بن كلثوم:

يا قوم

لا غزو بصحراء قبائلنا بعد اليوم

فليسحب كل منا سيفه

من معركة مخجلة

سال دمٌ لذوي القربى فيها

وليعقل كل منا

في باب عروبتنا الخلفي

حصانَهْ.

هذه دعوةٌ صادقة، مباشرة، تكادُ في صراحتها اللفظية تتجاوز الشعر المنظوم للخُطَب المنثورة، لولا أنّ الدعوة جاءت من عنترة على هيئة الاعتذار من فارس بني عبس. وفي أخرى يستمد الشاعر من قيس بن الملوح مادة قصيدته التي يُحذّرُ فيها من الإصغاء لما يقال عن السلام، والقبول بالأمر الواقع، جاعلا في مُعادلةٍ رمزية من فلسطين (ليلى) ومن المخاطَب، وهو بالطبع مجنونُ بني عامر، الفلسطيني غير المخدوع بدعاية الموقّعين على اتفاقية أوسلو 1993:

يا قيسُ حذار من السقطة في

ذاكرة العشق المعطوبة

وتشبَّثْ في ظلماتِ اللاوعي

ببَسْمةِ ليْلاكَ المحبوبهْ

وانطباعُنا عن استخدام الشاعر لكلمة تَشبَّث، واللاوعي، والذاكرة المَعْطوبة، أنها كلماتٌ لا يَحْسُن استخدامها في الشعر. وهذا الانطباع قد يقودنا لسجالٍ مطول عن كلمات تحسُن في الشعر وأخرى لا تحسن. وهذا موضوع لا مُتَّسع له في هذا الموْضع. وعلى الرغم من تنبيهنا في مطلع هذا المقال على الامتداد التراكمي في هذا الديوان، تجدر الإشارة لظاهرة جديدة فيه، وفي شعرالبتيري بصفة عامه، وهي ظاهرة الَمشهد (السينوغرافي) في قصيدة واحدة(1) هي قصيدة « المايسترو «. إذ نجد فيها حوارًا بين قاضٍ، ومستوطن، وفلسطيني، هو المتَّهم الافتراضي. وفي هذا الحوار ما يشبه المشهد الدرامي الذي يتضمن صورةً ومُخرجًا ومصورًا يلتقط الصورة، يقول مايسترو الألحان في قاعة المحكمة :

الحق مع المستوطن

في استيطان أراضي الغير

وله أن يتقدم فيه الشر

على الخير

وإذا لم يُذْعن أهلُ الأرض

فله أن يقتلَ ويطاردَ أصحاب الحقّ

ولا ضَيْر

وشيءٌ آخر يلاحظه الدراس لشعر البتيري في هذا الديوان، وهو وفرة القصائد التي يلتزم فيها بوحدة البحر، والقافية، والبيْت، بدلا من وحدة التفعيلية، وتنوُّع القوافي. فكأنه يحقق نبوءة نازك الملائكة التي زعمت في مقدمة أحد الدواوين(شجرة القمر: 1968) أنّ مستقبل الشعر العربي يؤكد عودته للنظم على بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي (175هـ) والتخلي عن التفعيلة الواحدة، وعن الشعْر الذي سمته حرًا. فقد رجح في هذا الديوان عددُ القصائد التي يسميها بعضهم عمودية (وهي تسمية خاطئة بالطبع) على تلك التي تتسم بالتحرر من عروض الخليل. ويجد القارئ في هذه القصائد متانة، وجزالة، لا يجدها إلا في شِعْر الفُحول، وهذا واضح في قصيدته (حنين إلى السلط) كما هو في غيرها:

بأيِّ عذر أنا قد جئتُ أعتذرُ

وقد نأى بيَ عنكِ الهمُّ والسفرُ

وما سعيتُ إلى هجْرٍ يغيّبني

عن ناظريْكِ، ولكن شاءه القدرُ

مرت عقودٌ ولم يرجع لروضته

عُصْفور قلبي فلا شدوٌ ولا وَترُ

صفوةُ القوْل، وزُبْدة الحديث، هي أنَّ الشاعر في «نهرٌ لشجر العاشِق» أضافَ إلى تجاربه التي تناولناها سابقا (2) تجربةً تراكميَّة جديدةً تؤكد عزمه، بل إصرارهُ، على العودة لأبي الفنون بعد أن استأثر به شعر الأطفال، وأدبُهم، تارة، والنثرُ القصصي، والروائي، تارةً أخرى. وليهنأ الشعر بهذه العودة، وذيّاَك الرجوع.











طباعة
  • المشاهدات: 2089

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم