حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الخميس ,14 نوفمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 491

ثنائية الحب والحرب في «بائع النبي» لسلطان القيسي

ثنائية الحب والحرب في «بائع النبي» لسلطان القيسي

ثنائية الحب والحرب في «بائع النبي» لسلطان القيسي

12-02-2022 08:41 AM

تعديل حجم الخط:

سرايا - من يقرأ الديوان الأخير لسلطان القيسي الموسوم بالعنوان «بائع النبي» (موزاييك للترجمة والنشر والتوزيع، عمان، 2016) يلاحظ بيسر، ودون أدنى تردد، هيمنة ثنائية الحب والحرب على القصائد، وعلى هواجس الشاعر تماما مثلما يلاحظ ثنائية أخرى على صعيد شكلي، وهي ثنائية النظم والنثر، علاوة على ملاحظة أخرى وهي الازدواجية في لغة الشعر، جريا على ما جرى عليه واتبعه بعض شعراء فلسطين من أمثال سميح القاسم وعز الدين المناصرة. على أن هذه المقالة تقتصر على إضاءة لثنائية الحب والحرب، نظرا لما تحظى به هذه الثنائية من أولوية في أيامنا هذه التي تستعر فيها الحروب الأهلية، والقلاقل، والفتن الداخلية، من حولنا (في سورية والعراق واليمن) فضلا عن الحروب الأخرى المتمثلة في بقاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، والكفاح الافتراضي المستمر ضد ذلك الاحتلال المتواصل منذ العام 1948.
ففي مدخل الديوان نجد الشاعر القيسي يتغزل بالكنعانيات، وهو يعني بهذا - بلا ريب - النساء الفلسطينيات، فالأبيات تتخللها إشارات لفظية ترسم للقارئ علامات تنم عن أن الكنعانيات تعبير يقصد به الشاعر نساء فلسطين، ولو أن هذا التعبير» كنعاني، وأرض كنعان « تعبير توراتي، وقد جرى الانزلاق إلى هذا المنزلق لدى كثير من الشعراء حتى وصف بعضهم نفسه بامرئ القيس الكنعاني، مع أن الكنعانيين ساميون مثلنا لكنهم ليسوا عربا كما العبرانيون ساميون مثلنا، ولكنهم ليسوا عربا كذلك.
فالشاعر، يمجد نساء فلسطين، فهن كالحجارة في الحرب، ولكنهن عكس ذلك في الحب، يتصفن بالرقة والنعومة والليونة التي تجعل منهن نساءً طيعات، خلافا لما توحي به شجاعتهن في الحرب من غلظةٍ، وقسوة قلب، ويرشقن المحاربين عند عودتهم من القتال بالورود، وبحفيف الخلاخيل، فضلا عن رشقهم بنظرات الأعين النُجْل، فهن مثل حوريات البحر يحرسن الجمال الملائكيّ، ويصْدُدْن عن العماليق ما يهددهم من خطر بالدعوات، والغناء الشجيّ، والموسيقى، ومثل هاتيك النساء، بلا ريب، هن من يتيِّمْن العشاق:
والكنعانيات من حجر حين تقع الحرب
ومن طين حين يقعن في الحب
والكنعانيات هن حارسات البحر
مؤنسات الجبل
سنبلات المرج
يسندن خطوة العماليق بالدعاء
ويغسلن قلوبهم من قسوة حين يعودون من الحرب بالغناء
ويرمينهم بالورود والأرز وحفيف الخلاخيل (ص17)
والقيسي يشدّد، ويلحُّ، على فكرة يتكرر التعبير عنها في القصائد، وهي التنديد بالحرب، فلو أتيح لهذا المتكلم في قصيدة « ذاهب إلى مجلس الأمن «، أن يعرض على المجلس ما لديه من مطالب، لكان في مقدمتها وقف الحروب في كل مكان، لأن الحرب من شأنها إحباط أمال الآباء والأمهات في تحقيق مستقبل آمن وواعد لأطفالهم، إذ لا ريب في أن كل أم، وكل أب، يريد أن يربي أبناءه، وينشئهم التنشئة التي تضمن لهم حياة كريمة في الحاضر، وفي المستقبل، أيضا، وهذا ما تحول الحروب دونه، فهم في أجواء الحروب لا يتمتعون حتى بالغذاء الصحي، ولا حتى بالأحلام السعيدة، ولا بالنوم الهادئ الخالي من الكوابيس (كأطفال سوريا):
فأحلامي،
بنيّ الذين
أرضعهم حليب الأمنية
وأسهر على تألمهم من خشب الأسرة الرخيص
أريد أن أربيهم كما اشتهي
بعيدًا عن نُباح المعارك (ص31)
فهذه الحروب، التي تشتعل من حولنا، تحيل نوم الأطفال يقظة دائمة، محفوفة بالمكاره، والقلق، والكوابيس المؤرِّقة، وكأنهم ينامون على شوك القتاد، لا على أسرَّة، ويرضعون حليبا مشوبا بالأماني، لا بالرضا عن الواقع، إنهم ينشأون نشأة لا تليق حتى بالحيوان. وفي قصيدة أخرى يسلط الشاعر القيسي الضوء، من خلال الصور المتكررة، على وضع الأطفال في الحروب، فهو وضع بائس، فيما يقوم آخرون بتنظيف بنادقهم، وحشوها، استعدادًا لجولة أخرى:
وقعتْ حربٌ خلف تلال أبينا
الأطفال يموتون، ويرتفعون على رأس الجبل المتعالي أقمارا
والشهداء يموتون كذلك
والنسوة لو سال دم الوردة فوق شراشف أرض الله يمتن
والباقون سواي
منشغلون بتنظيف بنادقهم (ص45)
فالحربُ، التي لا يقتصرُ تأثيرُها على النساء، والأطفال، والشيوخ، والعَجَزة، ولا على الحجر والشجر، بل يمتد ليغدو خطرا يُحْدقُ بمصير العالم، العاجز عن مواجهة ما يصفه الشاعر بالمصائر المسعورة، مصائر يجري الإعداد لها على فراش وثير، وفي رعاية كاملة من أولئك الذي يسمّيهم الشاعر تجار السلاح، وهم فضلا عن ذلك سماسرة حروب أيضا:
أقوَمُ ما تقوم الحرب،
بشهوة عارمة، ومصير ضالْ
المصائر الضالة مسعورةٌ، وتعضّ
أقوَمُ ما تقوم الحربُ من فراشها الوثير،
يفرُّ من خطوي الحمام المسالم
ويطوقني بالدعاء تجارُ السلاح (ص71)
ولا يملك المتكلمُ في شعر القيسي بُدًا من التنبيه إلى خطر الاستمرار في الحروب سنة بعد سنة، ومجزرة تلوَ الأخرى. وأما الضحايا في تلك الظلال، فينتظرون أوْبة العقل الإنساني الذي يضع حدًا لمسلسل القتل (المكسيكي)، لمسلْسَل الدموع، والحشرجات المتصلة، وسقوط الضحايا بالآلاف، إنْ لم يكونوا بما هو أكثر، انتظارًا يبدو لنا متل انتظار غودو، الذي لا يأتي في مسرحية صموئيل بيكت:
كلٌ هنا ما زال ينتظرُ
لغتي المريضة بالمجاز،
دموع أمي،
حشرجات أبي،
لفيف من ضحايا الحرب
أغنيةٌ،
تخاف رصاص حارس خوفها
كلٌ هنا ما زال ينتظرُ(ص73)
وعلى الرغم من الشعور بالإحباط الذي يحيط بالكثير من القصائد، بسبب الحرب الشعواء التي تأبى أنْ تضع أوْزارها، نجد سلطان القيسي يرى- فيما يرى الحالم - أنَّ الحرب انتهت، ولهذا يتغنى بهذه الرؤيا، ويكرر العبارة «انتهت الحرب» فيما يشبه الإلحاح على هذا البريق من الأمل الساطع، والضوء الذي يتألق في نهاية النفق:
وانتهت الحربُ
انتهت الحربُ
انتهت الحربُ مرارًا
وسيبدأ بعد قليل أستاذُ الصفِّ
درْس الترميم الوطني. (ص87)
وما يُدهش القارئ، والدارس، على حد سواء، أنَّ القيسي في قصائده يقرن دائمًا بين الحرب، بالمعنى الذي سبق ذكره، والحبّ. وقد لاحظنا هذا في قصيدة الكنعانيات، على أنه في موْضع آخر من الديوان، أيْ في قصيدة بعنوان (لو) يعِدُ بتفكيك لغز الحرب، ولغز الحبّ معًا. فكأن ثمة قاسما مشتركا بين موقفي الشاعر من الحرب والحب، فالأول يرمز للموت بالسلاح، والثاني يرمز للحياة بما تتمثله من خفقان القلوب، وارتقاء الشعر، ونمو الحياة الصغرى لتُصبحَ حياة أكبر، وأكثر سعة:
لو صرت يوما شاعرا
سأفك لغز الحرب
وأنا أحيل دبيب أسلحة الغزاة
إلى حصان راقص في زفة شعبية
واضمُّه لقصيدتي (ص99).
فالحربُ في هذا السياق تغدو ذكرى، وشعارًا فولكلوريا، لا أكثر، والسلاح يتلاشى بدبيبه، وبما يمثلة من استمرار لمسلسل القتل الذي لا ينتهي. في حين أن الحبّ الذي يَعِدُ المتكلم في القصيدة بإماطة الغموض عن ألغازه، يقرِّب الحبيب من الحبيب، قلبًا وجسدًا، ويصبح موضوعا مفتوحا للشعر على جُلّ الاحتمالات:
لو صرت يوما شاعرا
سأفكُّ لغز الحب
اقرنه بقلبك
ثم أقرن كل شعر باسمك المفتوح يا أمي
فأكبر(ص99)
وتبعًا لذلك، يرى الشاعر في المدينة رؤيا أخرى، فهي تواصل هذا الحلم، وتتطلع لزمن آخر تتراجعُ فيه الحربُ الضروسُ، وتتوقف، وتخرج من الأبواب خروجًا بلا عودة، ليبحث المحبون عن حبيباتهم في الأنقاض والخرائب، خرائب المدن التي دمرتها الحروب، والقذائفُ المتفجِّرة:
رأيت المدينة
تحمل أحلامها في حقائب ريح ضروس
وتخرج من كل باب،
فماذا أضرّ الحروبَ لو انتبهت للمساكين
أو لحبيب أضاعَ حبيبته في الخراب (ص11)
فالحربُ إذاً عدوٌ شرس للحبّ، مثلما هي عدو شرس للحياة وللعمران، ولكل باب مفتوح على الخير، وعلى العطاء الثرّ، وعلى تصريف الرياح التي تأتي بالمطر، لا بالريح الصرصر، والقحط، والموت السريع. والحب هو المعادل العكسي للحرب، فهو عطاءٌ موصول يجدّدُ الروح التي يهددها خطر الحرب، ويروي ظمأ الأرض التي جفَّفتها حرائقُ السلاح والقصف بالبراميل المتفجِّرة، وكل ما يأتي به الحب حلاوةٌ بحلاوة الشَّعْر الغجري الذي ينتشر عبر الريح مسافرًا في كل اتجاه، فالعالم كله يمكن اختصاره بكلمة واحدة تندد بالحرب العوان، وهي كلمة: أحبُّك:
علميني كيف أحمي أغنياتي
من شتات لا يملُّ الحرب بعدك
ثم قولي أي شيء قبل أن ينكسر البحر علي صوتي
مناديلُك أحلى من غيوم في الأعالي
أي شيء منك حلوٌ
فانشري شعرك فوق الروح
لميه، وقولي لي أحبّك.(ص108)
ومن يتتبع تواتر كلمة الحبّ في قصائد «بائع النبي» يلاحظ أمرين متلازمين، أولهما أن الحب يأتي في سياق ثنائي مع الحرب، فهو الرد على جل ما يدعيه سماسرة الحروب من جهة، ومن جهة أخرى، فإنه يؤكد تأكيدا شديدا على معاني العطاء والخصب والحياة والتجدد، ومصداق ذلك هذه الصورة التي يبرز فيها الحبُّ كشيء مرادف للحياة، فبحضوره تكبُرُ الصبيَّة، وتتلاشى حروف الموت بما عليها من نِقاط، وينتشر العشق مشوبًا بحمرة الخدود في كلّ اتجاه:
ستكبرُ تلك الصبية
ثم تنزل كل الطيور إذا أشرعت حضنها
ستكبر تلك الصبية
ثم تنحلُّ كلُّ الفراشات لو سقطتْ بُكْلَةُ الشَّعْر
وانفلت الحبُّ في الجو من حولها
ستكبرُ ،
يحمرُّ لون الخدود
وتسقط من أحرف الموت كلُّ النِقاط (ص18)
فالحبُّ يرادفُ الخير، ويرادف الحق بالحياة، والحق بتقرير الإنسان مصيره، والحق بالدفاع عن النفس تجاه القوى الشريرة التي لا تفتأ تثير الحروب، وتبعث الإرهاب ذميمًا هنا وهناك، والحبُّ، خلافا للحرب، يستطيع الإنسان أنْ يتقنه من غير تعليم، ولا تدريب، ولا اعتياد، كالحروب التي لها رعاة يسهرون على إعداد المقاتلين، وتدريبهم، وحقْنهم بالضغائن، والأحقاد، على بني الناس، ولو قُدِّر للمتكلم في القصيدة الموسومة بـ «ذاهب إلى مجلس الأمن» أن يلتقي أعضاء ذلك المجلس، لأوضح لهمْ ما يأتي:
لم يعلمني أحدٌ
أن أغني للحبّ أو الخير
ولكنني فعلت
ذاهبٌ إلى مجلس الأمن
لآخذ حقي في الحياة
وفي تقرير المصير، والدفاع عن النفس (ص33)
فالغناءُ للحبّ مرادفٌ للاحتفال بتوقُّف الحرب، وتغلُّب إرادة الحياة على قوة الموت قتلا. فالموت حبًا خيرٌ عند الشاعر من الموت قتلا، ولهذا لا أشهى لديه ، ولا ألذّ، من أن يصعد جبلا منفوشا كالعُهن، لينادي من قمته باسم الحبيبة حتى تنقطع منه الأنفاس:
ويحالفني الحبّ
حين أمرْجحُ قلبي
بين عينيك، هيا استوي للهوى
إن قلبي توزع بين قبائل غيبتك
انغرز السيف في الظهر
حين أشحْتِ بوجهك عني
استوي للهوى
ثم غنّي (ص110)
فبهذا الحب، وذاك الغناء للهوى، يطَّرد الوصال، ويتقاسم العاشقان ماءَ المحبة، وعسل العشق، شأنهما شأن من يخوض في بحيرة من ماء الورد، في حين تهتزُّ عروش قياصرة الحروب، ومُشْعلي القلاقل، والفِتَن:
اقاسمك الحبَّ في شقة في المدينة
أقاسمك الحب في حوض ماء وورد
أحبكِ . يهتز عرش أباطرة النار
تنحصرُ الحربُ بيْن هلالين (ص113)
مختصرُ القول، وصفوة الحديث، أن ديوان سلطان القيسي «بائع النبي» ديوان تهيْمنُ عليه ثنائية الحبّ والحرب، أو الحياة والموت، أو الوجود والعدم. في أداء شعريٍّ تطغى عليه أيضا ثنائية النظم والنثر، فالقيسي لا يجد حرجا في أن يجمع بين ما يعرف بقصيدة النثر، وقصيدة الوزن، سواء منه ما يعتمد التفعيلة، وحدة وزنية، أو ما يعتمد البحر ذا الشطرين، على قلّةٍ، بيد أنه في هذا كله يطرح القافية جانبًا، فهو إلى الترسُّل في الشِعْر أقرب منه إلى التقْفيَة. وقد يلاحظ القارئ، بلا تحفظ، أن القيسي يمتلك القدرة على التحرر من النثرية، ففي إحدى القصائد، وهي قصيدة (غودو) يقدم لنا قصيدة تجمَعُ بين تراكم الصور وانتظام الوزن، وسلاسة الجرس الموسيقي، وعذوبته، وتواتر القوافي في مواضع متباعدة. غير أنه في قصائد أخرى لا يراعي الدقّة، والانسجام، فقد يخرج من تفعيلة لأخرى، أو من الوزن إلى النثر، وهذه سمة قد تشير إلى طابع التجريب في قصائده. وهو تجريبٌ تؤكده نزواتٌ منها اعتماده على الكتابة المكثفة التي تتألف فيها القصيدة من سطْر واحد، أو أسطر قليلة. والتنويع القائم على المزج بين مفراداتٍ عاميَّة وأخرى فصحى، والكتابة بعناوين غير عربيّة الأحْرف، مما يشير إلى هذا الهاجس التجريبيّ ويُؤكِّدُه .

 

 











طباعة
  • المشاهدات: 491

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم