حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الإثنين ,23 ديسمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 1788

موزاييك اقتفاء "خبب" كامل النصيرات

موزاييك اقتفاء "خبب" كامل النصيرات

موزاييك اقتفاء "خبب" كامل النصيرات

15-02-2022 08:28 AM

تعديل حجم الخط:

سرايا - لا أدري كيف أصف اللعثمة والبعثرة في دوامة الذهول التي قيدتني ساعة القبض على «خبب» كامل النصيرات وهو في طريقه إلى قلب المتلقي ووجهِه ليرسم بسمة، تغلف وجعا واعيا حينا، وغير واع حينا آخر.

لا أخفي الحيرة التي وقعت فيها بين الأديب الساخر وبين الشاعر الذي يجسد وجع الأمة، وجع المواطن البسيط، فتذكرت ما كنت دوما مدركة له، وهو أن هذا الساخر إنما يكتب بقلم من ألم، تؤججه معاناة المواطن، ويخمده صوت الكبت المجتمعي، فيجنح إلى الموازنة بأسلوب ساخر، يطلق الآهات في حروف تقَوْلبت في شكل نص عنوانه «شر البلية ما يضحك»، نضحك إثر قراءته بأنين القلب المشروخ ونبكي قهقهة على شاهدة لقبر غد مجهول!!

جرت العادة، دراسةَ العتبات عند كل ورقة أو «رؤية» نقدية أو «رؤيا» ناقد، وبعد العنوان والغلاف أولى العتبات، بحثت عن تقديمٍ، وكنت شغوفة وفضولية لمعرفة من سيقدم لكامل النصيرات، وهو الذي اعتاد أن يقدِّم لكتب أصدقائه، وبعد أن أرَّقني التخمين، لم أستطع مقاربة أحد لرؤاه، تلقيت أولى العتبات النصية الداخلية والتي تمثلت في المدخل! ذلك المدخل الذي كان يبحث فيه عمن يستوعبه، عمن يتماهى مع جنِّ جنونه وعمن وعمن وعمن.. كأنما لا يبحث فقط عمن يفهمه، إنما كان يحاول أيضا إيجاد من يستشرف مصيره، ووجد ضالته في آخر سطر من الديوان ?صوت رحماني: إنّا أعطيناك هديلا! كأنما مُنِح أكثر ممن طلب، أكثر من الكوثر، وأكثر من كل شيء، وكي لا يأتي شيء بعد «هديل»، ختمت زوجه القاصة هديل الرحامنة، الديوان بآخر التوقيع، كان البدءُ كاملَ النصيرات ولا شيء قبل كامل، وكانت الخاتمةُ هديلَهُ الرحامنة، ولا شيء بعد هديل!

"خبب»، والخبب هو نقل أيامن الخيل مع أياسره، بالكاد تمس فيه الحوافر الرمال (الأرض)، تلك الهيئة التي تسر الناظرين، والخبب هو الهرولة، والخبب هو آخر بحر لم يذكره الخليل صاحب البحور العروضية، هو البحر الذي وجده من جاء بعد الخليل، وجده الأخفش. وخبب المجموعة التي لم يقلها أي شاعر قبل كامل النصيرات.. وهو أصالة هذا الشاعر وعراقته التي ترجمتها كلماته في وصف الحال أثناء استذكار الماضي وأثناء تصوير ذاته في رحلة البحث عنها، هرولة على تفعيلات البحر أحادي التفعيلة المكررة ثماني مرات، كمشاهد تتكرر بواقع حال لا يتغير!

جاء إطار الديوان العام بواقع قصائد متناوبة، واحدة بعنوان تليها أخرى بلا عنوان، كأنما يريد أن يرفع عن متلقيه عناء فك شيفرة العتبة النصية والمتمثلة في العنوان (كأنه يقول له: أحمل نصف العناء عنك!)، والتي نقابلها عند أول كل نص، لكن فعليا هو يقوم بعملية استبدال عتبة العنوان بعتبة أخرى هي نص سابق للنص الموجود التام بعنوانه ومعطياته كاملة. لم يُعجِز كامل النصيرات وضعُ عناوين لنصوصه البينية، لكنه أراد أن يميزها ببترها، أو زجها لمتلقيه بكل تلقائية دون عنوان ودون مقدمات.

كما أن الملاحظ أنّ تلك الفواصل لم تكن مجانية البتة، وعلى سبيل المثال فقط لا أكثر، تلك الفاصلة النصية الواقعة بين «الصعلوك الضال» القصيدة المتمردة الثائرة، و"الولد الذي في خاطري» القصيدة الأمنية التي لم تصل إلى التحقيق لأن المعطيات كلها محبطة، فأُجهضت:

«الفالت منّي

يعرف بأنّي

لا أخشى في الجدّ رقيبا وحسيبْ

أحمل قانوني وأغنّي

للعازف عنّي:

درب تودي وما تجيب».

هنا لا أستطيع تجاوز ذلك الانزياح الصارخ الحاضر في تلك الفاصلة والمتمثل في التورية: يحمل القانون (الناموس أو الشريعة الوضعية) أو (الآلة الموسيقية) التي يستدل عليها بالعزف والغناء، أو يقصد بالعزف، العدول عنه!

فواصل، كبقية نصوص كامل النصيرات، «نصوص مشكلة».

خبب النصيرات مثقل بتجاربه الثقافية على مرّ أعوام الرخاء والعناء، فنشهد مسرحة واقعنا بالأرفل، والوجع الغزّيّ، وبعنترةِ الحكاية، وبـالاستجارة بـ"يرفأ»، والوضع القائم الذي يُدوَّر ولا يتغير. يتقلب الشاعر بين جمرات متفاوتة الوهج، رغم أن الحريق واحد، يستحضر ملحمة عنترة، وتاريخ البلدان، والعدل في صدر الإسلام، يستحضر تاريخ النبي إبراهيم، والنمرود والنار، في قصيدته «إبراهيم أبو ثريا» وذلك التمازج كلّه في لوحة شعرية كاملة، فيها مقاربة بين نبي الله ونبي الوطن. يرسم شخصياته بعناية العارف بكلّ صغيرة رفت حوله، كما نشهد?تآلف نسوة يوسف وسيدة مواسم التين، وتظهر أيضا بين ثنايا الاسترسال شعرًا عند النصيرات، إشارات من الموروث الشعبي: المدرقة، يا غبصة، يا غبرة، كما تدخل العامية قصدا لتدعم قبول المتلقي وتفاعلية التلقائي، وإنّ في هذا لتوجيهًا ذكيًّا من المرسل (الشاعر) لتأطير رسالته،... كم يتقن النصيرات استغلال ثقافته الكثة في بناء نصه الشعريّ المشحون فكرا وإنسانية!

وعلى سبيل التثاقف، أو التداخل الثقافي يستشعر المتلقي لهذه النصوص، رسما كاريكاتيريا، كأنما يقرؤه حرفا، ويستحضر لوحات ناجي العلي خاصة في المَواطن التي جاء فيها على ذكر «الأرفل».. موزاييك ثقافي عالي الفنية ومتقن الإحكام!!

يسترسل النصيرات في التصوير لواقع نصف حقيقي، لا يُنظر إليه إلا بعين واحدة، هي منظور «الأرفل» في «نص خجول لغزّة وقت الصهيل» هذا النص الذي ينجذب القارئ إليه لما فيه من صور مغالطة للواقع الحقيقي.

ويستخدم الشاعر مفارقات لفظية ساخرة بالتدليل بالكلمة عن الكلمة نفسها كنوع من التكرار على سبيل التوضيح، دون اللجوء إلى طرح مرادفات أو شرح، وهذه الطريقة تهدف إلى إنشاء معنى عميق يجسد المُواطن الصالح المطحون الذي لا يملك بدائل، فيلوك الوضع ذاته دون محاولة تنويع في «لن أتنازل عني» وغيرها من مَواطن في الديوان، لكن الشاهد هنا كان في هذه القصيدة على سبيل المثال لا أكثر: ((كي يشبع هذا الجائع بالجوع ويترع جوعا ويهضّم)) و: ((هزيمتنا ناطحة فوق الفوق لفوق سحاب)) تكرار جوع وفوق! إلى آخر القصيدة: ((هذا الوطن المرميّ الآن أنا/ هذا الوطن المتمشط فيك أنا/ هذا الوطن اللابس فيك شجرا/ والراكب كرها حجرا والنائم فوق البحر، أنا / وأنا لا أتنازل عنّي)) 

وكلّما اشتد به الألم، زفر نكاتًا في قالب قصيدة، فتراوح وجعه ما بين الألم والهزل، كما في «نص مشوّه» والقصيدة المعنونة التي تليه «يا طارق أنا المطر».

كامل النصيرات ذلك البركان الوطني والقومي القاعد على شفا الوطن الكبير، أرّقته حلب، وفلسطين، والعراق وغزة، وأرقه وجع الأمة العربية التي تنوء تحت ضرس بروتوكولات، وأسباب ونتائج لا يدفع ثمنها إلاّهُ ومن شابهه من المواطنين في العالم على امتداد ساحل الشوك العربي، فأهدى لفلسطين تنهيدات وتنديدات، ورثى حلب، وللسودان كان هناك مرفأ للحزن المغلف بالصبر والأنين، و"ترنيمة للوجع الثوري»، يرى فيها كل عربي نفسه!

بين دفتي «خبب» رؤى كثيرة وتقنيات أكثر، فالفضاء النصي على الورق شكَّل ظاهرة جميلة وهي الكتابة حسب الإيقاع والمعنى، وأجمل ما تمثَّل ذلك كان في «المقامة العينية»، وكانت العتبات النصية أيضا تمثل نقطة ثرية لدراسة فجة، والتي تبدأ بالغلاف، والأثر المقتفى به، والكثبان والألوان، وبُعد السماء الصارخ في صحراء يبعث لونها إلى الفذلكة بسيمياء مهرجان الألوان، والغلاف الأحمر الأخير حيث توقيع القاصة هديل الرحامنة، كل ذلك يعد عمودا مكتمل الرصانة لدراسة قد تكون مبنية على تقنيات جافة، تتجاوزها أنفاس النصيرات وطموحه ومآربه، ون?تات بوحِه الساخر والمتألم.. لذلك كانت رؤياي مطلقة شاملة لا يقيِّدها شيء لتتماشى مع الخبب الذي اقتفيته واقتفيت روح النصيرات معه، ولم أصل إلى كنهيهما، رغم الألم الذي يتجدد في داخلي مع كل مقطع مررت به.

 











طباعة
  • المشاهدات: 1788

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم