07-03-2022 09:20 AM
سرايا - ضم ديوان "ما يُشبه الحُلُم" للشاعر عيسى حمّاد محموعة من القصائد بموضوعات مختلفة، نظمها بالبحور العربية.
ولا شك أننا أمام نتاج أدبي رفيع، يجمع بين المتعة والفائدة لدى المتلقي، وبين الفكر الذي يرتقي بالذائقة الجمالية، والشعور والإحساس بما تملكه اللغة من جمال.
فالشاعر من خلال قصائده يحاول طرح مجموعة من القضايا تحاكي الفكر والشعور والعواطف والوطن والإنسان، فالشعر ما هو إلا مجموعة من التجارب، يعيشها الشاعر بإحساسه وعواطفه. ونرى الشاعر يُعرج في قصيدته الأولى مُعرّفاً للشعر وقائلاً:
والشعرُ ليس صدىً يشي بخُرافةٍ
أو عزف نايٍ في النوازل نوّحا
بل واحة الأرواح تحفزُ طَلعنا
ليعُبَّ أطياف الرحيق وينفحا
سبحان ربي ما نظمتُ قصيدةً
إلا سجدتُ على الحروف مُسبحا.
ربما كانت القصيدة الأولى في هذا الديوان (نمير الشعر) هي المفتاح لما أراده الشاعر في ديوانه (ما يشبه الحلم)، فمفردة نمير تعني: السلس، العذب، الصافي، وهي أيضاً من المفردات القرآنية، فقد تناص الشاعر فيها مع الآية 65 من سورة يوسف.
فكأن الشاعر يُمهد للمتلقي بأن نمير الشعر، عذب الشعر، هو ما امتاز بالقوة والسلاسة والعذوبة، وعندما أراد أن يختم قصيدته عاد مرة أخرى يؤكد على ما ذهب إليه، من اعتزازه وفخره بما تجود قريحته الشعرية، حتى أنه كلما نظم قصيدة سجد على الحروف مُسبحا.
والمفردات التي وظفها الشاعر، سجدتُ، سبحان، مُسبحا، بالإضافة إلى عنوان القصيدة، نمير، مفردات ذات بعد ديني، وهذا يدل على أن الشاعر ذو ثقافة دينية واسعة.
أحلام الشعراء لا تنتهي، فأي حلم أراده الشاعر ( عيسى حمّاد ) في ديوانه ما يشبه الحلم، فقد تنوّعت وتعددت عناوين وموضوعات هذا الديوان، وإن كان الحس الديني هو ما شدّ ولفت انتباهي، فمنذ الوهلة الأولى لمطالعة قصائد الديوان، التي بلغت تسع عشرة قصيدة يشعر المتلقي بالحس الديني الذي يتمتع به الشاعر، فقد ظهر هذا الحس في أكثر من قصيدة من قصائد الديوان، بل هناك ما هو أكثر من ذلك، فقد ظهر هذا الحس في عنونت الكثير من القصائد، فجاءت قصائد بعنوان : (أول الحشر، حمّالة الحطب، رسول الخلق والخُلق، ابتهالات أوّاب، رحماك قلبي، طقوس أمنياتٍ)
التعالق مع الموروث الديني ليس حكراً على شاعرٍ دون آخر، بل هو متاح للجميع، وربما كان أهم صور التعالق الديني ما كان مع القرآن الكريم، لما لكتاب الله من مكانة في نفوس المسلمين خاصة ولغيرهم عامةً، وقد تنوّعت أساليب توظيف التناص والتعالق القرآني في ديوان الشاعر عيسى حمّا د، فقد تناص مع المفردة القرآنية في الكثير من النصوص، كما تناص مع القصة القرآنية في مواضع عدة سنحاول المرور عليها ما أمكن.
ففي قصيدة بعنوان «ما أُبِّنَ الجمالُ» يتناص الشاعر مع قصة سيدنا يونس (عليه السلام)، فهو يتحدث عن شجنه، ومتى الخلاص من شجنه وحزنه، فربط خلاصه من شجنه بقصة سيدنا يونس (عليه السلام) وهو في بطن الحوت، في الظلمات، ولم يشفع له إلا الدعاء. ويقول:
أياّن يا شجني الشقي ستنجلي
وتريح قلبي من قتام ٍ سربله
في الحوت يونس كم تكبّد ظلمةً
واسود جوف النون حتى يقتله
لولا دعاءُ مسلمٍ بذنوبه
لقضى مُليماً لانبعاث الزلزلة
وأنا بإثمي إن جحدتُ قسامةً
فجلال ربي سرمدٌ لا شبه له
استثمر الشاعر الكثير من مفردات القرآن الكريم، ووظفها في شعره بما يتناسب وجو النص، بالإضافة لما تحمله من دلالات تنسجم مع جو القصيدة، ففي قصيدة (قافية همسٍ) يقول:
وبرّي بالوصال كأمّ موسى
فلن يُغوى رضيعُكِ بالنساءِ
وظف الشاعر جزء من قصة سيدنا موسى (عليه السلام) لعدم قبوله المرضعات براً بوالدته التي أرضعته وبرت به، فالشاعر يطلب من حبيبته البر بالوصال حتى لا يُغوى بغيرها من النساء.
وفي قصيدة بعنوان (ترنيمة الخال) يقول :
لمّا سألتُ الخالَ في وهج الضُّحى
عن سحره، باهى وقال: نَكَالا
ليطُوفَ بالصحن البهي وخالهِ
وبريق من ولهِ الجنون خيالا
إن لم أنل من لثمةٍ لمهاده
لجنيتُ إثماً واستبحتُ نزالا
فالشاعر يتغزل بخال الحبيبة، والخال: الشامة أو النكتة السوداء في البدن وغالباً ما تكون في الوجه كعلامة من علامات الجمال، وقد وظّف الشاعر مفردة (نَكالا) التي تعنى العقوبة والعذاب، وقد تناص فيها مع قوله تعالى في سورة البقرة (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها) (البقرة/ 66) وفي سورة المائدة (جزاء بما كسبا نكالا من الله) (المائدة/38)
فهذا الخال الذي في خدّ الحبيبة هو عذاب للشاعر من فرط حبه لهذا الخال الجميل، وهناك مفردات أخرى وظفها الشاعر بحسه الديني المرهف مثل مفردة الطواف، والإثم.
وفي قصيدة (رحماك قلبي) يستثمر الشاعر مفردة (نَكال ) و( وسراب بقيعة ) و(لجة)
فانحاز قلبي للرحيل مُفارقاً/ ما أدمنتهُ عُرُوقُهُ/ واجترَّ بأس نَكالهِ/ حتى تناهى عاقراً برؤاي.../ما كان وزري إن أثرن حماقتي؟/ وغوين قلبي خِلسةً/ وتركنه في لجة/ هل ترتجي أثر السراب بقيعةٍ/ مُتوسماً جثَّ اليباب بغربتي/ ومعطلاً للتيه في منفاي؟
فالشاعر يخاطب قلبه بعد أن تجاوز عمره الخمسين عاماً، وانحاز قلبه للرحيل، فهو في عذاب وعقوبة، ويتحدث عن الوزر والإغواء.
ولم يقتصر التناص والتعالق في ديوان الشاعر على التعالق الديني، فكما ظهر الحس الديني في قصائد الشاعر ظهر الحس الأدبي والتعالق مع بعض الشعراء الجاهلين وغيرهم، ففي قصيدة (رحماك قلبي) نرى الشاعر قد تناص وتعالق مع شعر امرئ القيس في قوله:
خمسون قهراً بتُّ من ولهي/ جلمود صخرٍ مقفراً/ وسراب غيمٍ مُترعاً بظمايّ. يصف الشاعر ما مضى من عمره، فهي خمسون قهراً، فقد شبه سنوات عمره بالقهر، ثم أتبع ذلك بوصف آخر، فهي جلمود صخرٍ مقفراً، والجلمود الصخرة الصماء وزاد عليها صفة القفر، فهي مقفرة، لا حياة فيها.
يستثمر الشاعر الإبداع الفني الجميل والمختزل، وما تحمله الأمثال العربية والشعبية في بعض قصائده، لما للأمثال من مكانة في نفوس العامة، فهي خلاصة تجارب إنسانية، يتداولها الناس فيما بينهم، ففي قصيدة ( رديف الأذى) ص 55 يقول الشاعر :
يا وارد البئر لا تقذف بها حجراً
بعض الحجارة سجيّل وأنت ظمي
فالشاعر يتناص مع المثل الشعبي المشهور «لا تشرب من بير وترمي فيه حجر».
فالشاعر يتكأ على المثل الشعبي في وصف من اعتادوا الأذى، بل هم الأذى بعينه كما يقول الشاعر، فقد شبههم بإبليس، وقد أصر الشاعر على رثائهم فهم في نظر الشاعر أموات لا فائدة تُرجى منهم ، ومهما قال فيهم من كلام فهو لا يجدي.
أرثيكَ حياً وليت الحرفَ يُسعفني/ مهما نعتُّكَ لن يجدي الكلام فمي
وفي قصيدة ( أطلال عهدٍ ) يستثمر الشاعر القصة الشعبية التي تتحدث عن كسر الجرار خلف من رغبت في فراقه والخلاص منه، وكأن كسر الجرار تعبيراً عن فترة وزمن النحس واستقبالاً للسعادة.
فاكسر جرار فراقه/ واحذر خصائل من معك.
هذه بعض الأمثلة على التناص والتعالق الديني والأدبي في ديوان الشاعر عيسى حمّاد (ما يشبه الحلم).