09-03-2022 09:25 AM
سرايا - أصدرت دار فضاءات للنّشر والتّوزيع الرّواية الأولى للكاتب المغربي مصطفى إسماعيلي بعنوان "تشكيلات على لوحة الزّمن" التي تتناول جوانب وأحداث متنوعة عن الحياة.
وفي التّنوّع الذي فيها جذبٌ للقارئ وتشويقٌ له. فقد حاول من خلال عددٍ من الشّخوص الذين يسكنون أو يعملون في فندق سان ميشال بالحيّ اللاّتيني بباريس، والذين ينتمون لثقافات وجنسيات وأوطان مختلفة، رصد المفاهيم الفكرية والأحاسيس الدّفينة والهواجس التي تسكن دواخل الإنسان في علاقة جدلية ومُركّبة حول وجوده على هذه الأرض. وذلك بوضع تساؤلات حولها وتوصيفها بشكل عميق ينقلُ الكلمات إلى صور ناطِقة أمام أعين القارئ.
ويستعرض الكاتب التّيمة الأساسية في الرّواية وهي "مكيافيلية الزّمن" بشكل مُتداخِل ومُلْتبس مع التّيمات الفرعية الأخرى : كعبثيّة الموت والأقدار، وشطحات الذّاكرة وعتمة النّسيان ووجع الغياب، والخوف واللاّوثوقية، والفرح والاحتفالية والحبّ الكبير،والخِيانات ونذالة الإنسان، وفظاعات الشّيخوخة واغتراب الذّات في الجسد ومشاعر العزلة والوحدة، والتّناقضات الصّارخة المبثوثة في كل تجلِّيات هذا الوجود... وفي الأخير شقاء وقهر الإنسان في متاهة ومصيدة هذه الحياة!
ويُداوِل الكاتب خلال كل فصول الرّواية بين التراجيدياوالاحتفالية، وبين صور الجمال والبشاعة، وبين الشّيء ونقيضه. وذلك بشكلٍ مُتلازِم، وكأنّها وجوهٌ لعُمْلةٍ واحدةٍ في حياة الإنسان.
سَكنت هذه المشاعر العميقة بطلة الرّواية، الرّسامة الحسْناء إيفلين، وهي في أوج شبابها. فشَكّلت من أحاسيسها المُرْهفة "لوحة الزّمن" التي نَقشت عليها كل ما يختلجُ في نفسها من مُعاناة وأحزان وأفراح.واختارتأن تتمرّد على أقدارها،وأن تسخر من الزّمن بخلق الجمال المُطلق والخالد في لوحاتها،وكذا الشّغب في المناطق الرّمادية، والمشي على الخيط الرّقيق بين العقل والجنون، والوقوف على حافة الجُرْف في غير توازن، والشّعور بدُوار هذا العالم. وأن تعيش اللّحظة الفاتِنة بشغَف، ولا تُصدِّق أُكْذوبة هذه الحياة!
وقد قرأت إيفلين بالصّدفة عن زلزالٍ مصحوبٍ بحرائق وأمواج عاتية، وقَع قبل ثلاثة قرون في مدينة لشبونة البرتغالية، ودمّر الكنائس وقتل الآلاف من المُصلِّين تحت أحجارها. فكان هذا الحدث التّاريخي بِعُمق دلالاته الفلسفية، كافِيًا لِصعْق وخلْخلة مشاعرها المُرْهفة، وتأجيج تساؤلاتها وهواجسها الوجودية. وجعلِها تنفُض قلقها، وتتوه في أنفاق الذّات وسَبْرِ أغوارها. وقد كَشفت من خلال تفاعلهامع أشخاص الرّواية،عن فَهْمِها المُلتبس والمُتحيِّر لهذه الحياة بكلّ تناقضاتها وأوجه التّضاد فيها، وعن أقنعتها وتجلِّيات العبث فيها. وخَلُصَت في الأخير إلى أنّ البحث عن الحقيقة على هذه الأرض يُشبه القبض على الرّيح، وبأنّالانسان عاجزٌ في الأخير عن استيعاب وفهم وجوده فوقها.. لِتَبقى الأسئلة مُعلّقة إلى الأبد!
وكُلّما ضَجرت إيفلين مِنْ لا مَعْنى الحياة، وارْتَعبت من شراسة الواقِع ونذالة الانسان، أو كُلّما تاهت في سراديبالذّاكرة، فإنها تَلْجأإلى فُقاعةٍ نسجتها في خيالهالتنتشي بجمال اللّحظة وألق الألوان وموسيقى الحياة وعطر الورود.فتَصْنع الفرحة والملْهاة لنفسها،وتُغازِل جسدها بالرّقص حتّى الثّمالة. ولا تحلو لها الحياة إلاّ في غمرة الدّهشة والإرباك، ومُساءلةالكثير من الأشياء والمشاهد التي قد تبدو لنا مألوفة :كالبقايا، والآثار، وعنف اللّذة، والفرحة في عيون الأطفال، ووحشة الأمكنة، وجمال اللّيل، وفرحة البِدايات وحزن النِّهايات.
ويتوالى سَرْد أحداث الرّواية بشكل مُحْكم وسلِس، من خلال باقي الشّخوص التي تنتمي لثقافات مُختلفة أو مُتناقضة. مع ما يترتّب عن ذلك من إشكالات فكرية عميقة، وسُلوكيات واعِية ولا واعِية، ومفاهيم مُتباينة للحياة. تتأرْجحُ بين العادي، والمسؤول، والمُتديّن، والخارج عن المألوف، والعابِث، واللاّمعقول، والمُسْتهتِر بالمُواضعات الاجتماعية السّائِدة.
ويتصدّر رامي الباحث المصري في علم الاجتماع هذه الشّخوص، ويُشكِّل حلقة وَصْلٍ قويّة بينها. وفي إطار تنقيبه عن حالات اجتماعية تُمكِّنه من دراسة سلوك وطباع النّاس، وهي التّيمة التي اختارها لتحضير رسالة الدكتوراه بجامعة جوسيو بباريس، التقى صُدْفةً في يومٍ جميل بإيفلين على ضفّة نهر السّين، وهي مُنْشغلة برسمها لطفلين جذلين يلعبان بالماء في غفلةٍ من الزّمن. وسرعان ما أسِرَتْهُ بسحر جمالها الطّاغيوجنون وغرابة أفكارها. واستدرجتْهُ مع توالي الأحداثإلى أماكن زَلِقة، انتهت به إلى زَعْزعة قناعاتِه السّابقة بمعنى الحياة وكُنْهِ الانسان. فسقط أخيرًا في حبّها الحارِق وسط أجواءٍ من التّجاذب والصّراع بين رومانسيّةٍجارِفة يختلطُ فيها السِّحر بالجنون، وبين رفضِ إيفلين للقيم الاجتماعية المُتعارف عليها في ثقافة الشّرق المُحافِظة التي ينتمي إليها رامي. مِمّا جعل هذا الحبّ المُتوهِّجفي قلوبهما، يتحوّل في الأخير إلى استحالة بقيت مُعلّقة بلا نهاية.